المؤرخ الحكواتى

سيد محمود
سيد محمود

آخر تحديث: الثلاثاء 17 أكتوبر 2017 - 8:35 م بتوقيت القاهرة

«يحتاج التعامل مع التاريخ لقفاز جراح، وليس لساطور جزار «عبارة نقلها لنا فى مدرج (50) بقسم التاريخ بكلية الآداب جامعة القاهرة المؤرخ الراحل رءوف عباس الذى لم يخف أبدا انحيازاته الفكرية، وكان دائم السخرية من فكرة «الحقيقة التاريخية»، لذلك أثارت كتاباته الكثير من المعارك فى وسائل الإعلام، لكنه لم يضطر فيها أبدًا إلى لعب دور «المؤرخ الحكواتى» الذى يراهن على الإثارة أكثر من الاستنارة.
علمنا رءوف عباس مخاطر القراءة الاستعمالية للتاريخ وأضرار إطلاق الأحكام وحذرنا من النظر إلى الماضى بعين الحاضر أو الإسقاط عليه.
وكان درسه الأهم: النظر إلى التاريخ كوحدة متكاملة وكيان حى وليس كجثة هامدة يسهل التعامل معها بمنطق «التقطيع أو السلق أو التسبيك».
فاته رحمة الله عليه القطار السريع لبرامج «التوك شو» وكان يرفضها جميعا ولم يضع نفسه داخل إطار لصورة المؤرخ «نجم شباك» الذى ينتقل من قناة فضائية إلى «أخرى» بخفة يد مسبوقا بصفة المفكر وكان بعض رفاقه يفعلون ذلك، غير أنه فضل التعامل مع التاريخ كعلم يقوم على إنتاج المعرفة وليس مصطبة لإنتاج المواقف والطرائف والمرويات.
وكنا نحن طلابه نشاهد برامج الاستعمال السريع للتاريخ ويعز علينا غيابه عنها ونطالبه بظهور مضاد لتصحيح معلومة أو نقد فكرة شائعة حول شخص أو حدث، بينما تمسك هو بـ«الظهور النادر والمشروط متمثلا منطق الصوفية الذى يقول: «الظهور يحنى الظهور».
وحذر مرارًا من مخاطر قيام المثقف بتلبية خدمة «الطلب السريع» لوسائل الإعلام وكان يقول: لا يمكن للمؤرخ «أن يقدم التاريخ فى علب الوجبات السريعة التى تسمى التليفزيون، لأنه ليس مقدمًا لـ«برامج الطبخ» ولا «عامل دليفرى» يؤدى مهمة توصيل التاريخ للمنازل.
تعلمنا معه أن المؤرخ يملك كل البهارات والوصفات التى تضمن صناعة وجبة إعلامية ساخنة إلا أن مهمته أسمى من ذلك ولو كان خياره أن يكتب قصة، فعليه أن يختار بين «أخبار الحوادث» وقصص تشيكوف.
وما ينطبق على رءوف عباس ينطبق على آخرين أهمهم فى حياتى الدكتور أحمد عبدالله رزة الذى أعده «أنضج عناقيد الغضب» فى مصر هو والدكتور محمد السيد سعيد الذى حلت ذكراه الأسبوع الماضى، فقد أهدى لى كتابًا حرره وضم أوراق ندوة بعنوان «تاريخ مصر بين المنهج العلمى والصراع الحزبى» وكتب له مقدمة تصلح برنامج عمل لتعامل أى بلد مع تاريخه فقد حذر من «الاستخدام السياسى للتاريخ» ومن «قتال الأموات»، داعيًا للتمييز بين موضوعية التناول وبين حرية الانحياز الفكرى أو السياسى وهو ما كان يطلق عليه تناول التاريخ لخدمة المستقبل أو لإدارة «الصراع الرشيد» وهذا يعنى نفى القداسة عن أى شخص أو أى حدث بشرط امتلاك الأدوات اللازمة لذلك وفتح الباب على تفسيرات متعددة وليس انطلاقا من الرغبة فى إعادة «شنق الأموات».
ومن ينظر حولنا الآن لن يجد إلا نخبة تتعثر فى حاضرها، وتتعامى عن المستقبل، لذلك تستسهل «النبش» فى الماضى. ولأجل «تريند» على «فيس بوك» تتعامل مع التاريخ بـ«القطعة» وتعيد إنتاج المعلومات الشائعة لكن الجانب الأخطر أنها ترتد بعمل المؤرخ للمنطقة التى غادرها منذ زمن وهى دائرة «الحكواتى»
وكأن كل ما أردنا إنجازه عبر قرن من الحداثة القشرية هو استبدال جمهور المشاهدين بجمهور المقاهى، ودون وعى بمخاطر الاستهلاك فى «لعبة التليفزيون» أو إدراك مخاطر ميلاد المثقف التليفزيونى رغم أن التليفزيون ذاته فضاء غير لائق للتفكير المتأنيكما يقول بيير بورديو.
وهذا «المثقف التليفزيونى» له صفات رصدتها الكاتبة اللبنانية دلال البزرى فى كتابها (مصر ضد مصر / دار الساقى) وأنصح بقراءته من باب تعميم الفائدة أو منع المشكلات أيهما أصلح!!.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved