عن «داعش» والأنظمة الراعية والحرب التى تدمر العروبة والإسلام معا

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الثلاثاء 17 نوفمبر 2015 - 11:30 م بتوقيت القاهرة

نجح «داعش» فى نشر رائحة الموت فى معظم أرجاء العالم، وإن ظل نصيب العرب والمسلمين من الضحايا هو الأعظم ومن التشويه الفظيع لإنسانيتهم هو الأقسى.
اغتال «داعش» الدين الإسلامى بداية، ثم اندفع يغتال العرب.
حول الدين الحنيف إلى وحش أسطورى يمتهن تدمير الحضارة الإنسانية، وحول الإنسان العربى إلى سفاح يحترف القتل الجماعى بغير تمييز بين الرجال والنساء، بين الأطفال والشيوخ، وبين العرب والفرنجة، وبين المسلمين وأتباع الأديان الأخرى. جعل «الإسلام» وحشا ضاريا يحترف اغتيال الضوء.

استفاد «داعش» من تهالك الأنظمة العربية، من فشلها المريع فى حماية أحلام الشعوب التى حكمتها فاستأصلت المبدعين من أهلها، حَمَلة الأفكار المبشرة بغد أفضل، العاملين لإخراج الناس من ليل التخلف والجهل والدكتاتورية. ولقد اخترق «داعش» المجتمعات التى أُفقدت وعيها حين صُيِر الوعى «جناية» تستحق رمى حملة راياته المشعة فى زنازين تحت الأرض، أو فى معتقلات جماعية يسترق المدفونون فيها النظر إلى نتف من الضوء المتسلل خلسة إلى حيث يقبعون فى انتظار موت يأتى متباطئا أو «إفراج» يسمح بإخراج جثث أفكارهم وأحلامهم المتعفنة لدفنها بلا مشيعين.

قهر «داعش» الوطنية التى استنزفها حكام القهر فانتزعوها من حَمَلة راياتها وصادروا جمهورها باسم «حماية الأمن القومى»، ثم أطلقوا عليها وحوش الطائفية والمذهبية فالتهمت إشعاعها الفكرى وحولوها إلى أداة تزيين للدكتاتورية..
***
فى البدايات، تولى أهل النظام العربى رعاية هذا الوحش الوافد من الجاهلية واتخذوه حليفا فأطلقوه على معارضيهم من أهل التقدم والمبشرين بالغد الأفضل، وأداروا حرب إلغاء بين الجاهليين من رافعى الشعار الإسلامى وبين المؤمنين بأن الدين الحق لا ينفصل عن كرامة الإنسان وعن حق الأمة فى بناء قوتها بالوحدة.

تربت جحافل «داعش» فى سجون الأنظمة التى مُوهت دكتاتوريتها بالشعارات المفخمة..
ثم انتبه الجلادون إلى أن هؤلاء هم «حلفاء الضرورة» فى مواجهة الوحدويين الأصلاء والوطنيين المخلصين لأفكارهم والمنادين بالحرية كشرط للتقدم والكرامة الإنسانية..

ثم كان أن كبُر «الوحش» فصار ـ فى نظر نفسه ـ شريكا للسلطان.. والسلطان لا يقبل الشراكة مع التابع، وكان لا بد من الافتراق. لكن الافتراق مصدر خطر أكيد، فـ«الوحش» يعرف من أسرار السلطان أكثر مما يجب. يعرف نقاط ضعفه التى لا يعرفها الذين فى الخارج. يعرف طبيعة ردود فعله على أية حركة فى الشارع. يعرف «بيت السر» فى علاقاته المخابراتية والتعاون الأمنى مع الدول الأخرى، لا سيما تلك القائمة بحماية «الأجهزة»، مثله. يعرف شيئا عن «صفقات التبادل» التى كثيرا ما استعان بمعلومات «الوحش» فى إتمامها.

تحولت العلاقة، ولو لفترة محدودة، إلى «تحالف»: يشترى «السلطان» من «الوحش» معلومات مفيدة عن «خصومه» فى الداخل، ويوسع له هامش الحركة لكى يوفر له الوصول إلى خصومه الناشطين فى الخارج والقوى التى تدعمهم فتوفر لهم المأوى والدعم ووسائط المواجهة، ولو عن بُعد.

بات «داعش» يعرف أكثر مما يجب عن «النظام»: مفاتيح السلطة فضلا عن مصدر القرار، شبكة الاتصالات ومجالات الحركة بالحلفاء والمتعاونين والخصوم الذين لا بد من إرجاء الصدام معهم، ولو إلى حين، وكذلك «الأصدقاء» ممن يمكن أن يبيعهم من كيسهم عن خصومهم الفعليين أو المحتملين على قاعدة: اعطنى فأعطيك.
***
.. ولأن لكل نظام خصومه، محليا وفى الإقليم، وحتى فى العواصم البعيدة، فمن الطبيعى أن يفيد «داعش» من هؤلاء الخصوم، فيبيعهم ما ينقصهم من المعلومات أو يبادلهم ما يمكنهم من مجال أوسع للحركة.

بل إن «داعش» كان يعمل على الخطين: يبيع النظام بعض ما ينفعه من معلومات عن «الخصوم المشتركين»، ثم يبيع بعض ما يعرفه عن أساليب النظام وتكتيكاته إلى «خصومه»، وهكذا.

ولأن بعض دول العالم، لا سيما الكبرى، هى «المشترى الأول» للمعلومات عن هذا العالم السرى للإرهاب، فقد دخلت السوق تبيع وتشترى: تبيع من كيس خصومها، وتشترى معلومات تنقصها عنهم، وهى فى الحالتين رابحة.. ولا مانع عندها من أن تبيع إلى نظام مخاصم، خصوصا وأنها تبيعه من كيسه وعمن يعتبرهم «أعداء استقراره»، والسوق مفتوحة فلا ترد بائعا أو مشتريا... وهكذا يمكن بيع معلومات منقوصة أو مزورة ولكنها تخدم «الغرض».
وفى هذه السوق يتميز «داعش» بأن لديه كنوزا من المعلومات عن بلاد عدة، تكاد تشمل أقطار الوطن العربى جميعا ومعها بعض دول الجوار.

هل من الظلم بل من التجنى أن يُقال إن «داعش» هو الوجه الآخر للعديد من الأنظمة العربية أو أنظمة مشابهة فى بعض الدول الإسلامية، فضلا عن كونه «الحاضنة» لجموع من رعايا دول عربية وإسلامية يعانون من الاضطهاد فى بعض الدول الأوروبية، ولا سيما فرنسا التى لجأ إليها ـ قهرا ـ ملايين من المغاربة والجزائريين على امتداد قرن أو يزيد، فعاشوا فيها منبوذين على حافة الجوع، يتكدسون فى «معازل» خاصة بهم تطاردهم الشبهة فى ولائهم للبلاد التى استعمرتهم لأكثر من قرن ونصف القرن (الجزائر، مثلا) ثم قبلتهم بالاضطرار ليقوموا بـ «العمل الوسخ» نيابة عن «الرجل الأبيض» ولحسابه.
***
إن بعض أبرز القيادات المعروفة لتنظيم «داعش» كانوا من ضباط جيش صدام حسين فى العراق، الذين سُرحوا بغير وجه حق ونبذهم «العهد الجديد» الذى استولده الاحتلال الأميركى للعراق. كذلك فهناك قياديون من متخرجى التنظيمات الإسلامية، والإخوان المسلمين تحديدا، ممن تصادموا مع النظام السورى فاجتهد فى استئصال أكثريتهم فى حين هرب الناجون إلى تركيا أساسا حيث، احتضنهم نظامها الإخوانى فآواهم ونظمهم ورعاهم ثم سلحهم وأطلقهم لينتقموا من النظام فى دمشق حين تصادم معه قبل خمس سنوات.

بالمقابل فإن الرياض وعواصم خليجية أخرى قد احتضنت، تاريخيا، عددا كبيرا من قيادات الإخوان المسلمين وتنظيمات إسلامية أخرى، أحيانا بالتفاهم مع النظام فى القاهرة وبعنوان حجزهم وتأمينه منهم.. فلما وقع الخلاف مع دمشق ثم ـ فى ما بعد ـ مع القاهرة التى أسقطت الإخوان وانتهجت سياسة مغايرة، أطلقت هذه العواصم «الإخوان» الذين وجدوا فى «داعش» حاضنة ممتازة للراغبين فى الانتقام، مضيفين خبراتهم ومعارفهم إلى بنك معلومات «داعش» ليستخدمها فى خططه ومشروع «خلافته الإسلامية» التى باشر رفع أعلامها السوداء على المناطق العديدة التى اجتاحها فسيطر عليها فى سوريا بعنوان «الرقة» ثم بعنوان «الموصل» فى العراق التى أعلن منها «الخليفة» أبو بكر البغدادى «دولة الخلافة الإسلامية» العتيدة.. ملقيا ظلالا من الشك على موقف أنقرة والحكم الإخوانى فيها، بأنها قد أمنت له الطريق الطويل إلى الموصل.

على هذا يمكن الاستنتاج أن «داعش» هو العنوان الصاعق لفشل الأنظمة العربية الدكتاتورية التى رفعت الشعار القومى، مخادعة الجماهير المؤمنة بوحدة الأمة، وهكذا تم اغتيال العروبة بعد تشويهها واعتبارها تغربا وابتعادا عن الواقع، وها هو الشعار الإسلامى يسقط ضحية جليلة للإرهاب بعدما استخدمه طويلا فى حربه على الوطنية والعروبة والدين الحنيف معا.
***
لقد بات «العرب» بلا هوية محددة. لجأ بعضهم إلى «الكيانية» رفضا «للقومية»، ولجأ بعض آخر إلى «الإسلام» رفضا للعروبة، وتنكر بعض ثالث للعروبة والإسلام والوطنية معا، فباتوا معلقين فى فضاء مفتوح بعدما تنصلوا من ركائز وجودهم.

من الطائرة الروسية التى يبدو أنها فُجرت فى سماء الصحراء بسيناء قرب العريش، فذهب ركابها المائتان وعشرون من الرعايا الروس الأبرياء الذين جاءوا للسياحة ضحية «الإرهاب الإسلامى»، إلى تفجيرَى الضاحية الجنوبية من بيروت (برج البراجنة) وقد حصدا نحو الخمسين من الضحايا، رجالا ونساء وشبانا وفتية، فإلى تفجيرات باريس الوحشية التى أودت بحياة مائة وثلاثين ضحية قابلين للزيادة، يتبدى بشكل قاطع أن هذا الإرهاب المتوحش إنما يقتل أول ما يقتل الدين الحنيف، ولا يفرق بين ضحاياه، مسلمين سنة وشيعة ومسيحيين أرثوذكس وكاثوليك وبروتستانت.
كذلك يتبدى أن الأنظمة العربية القائمة أعجز من أن تواجه هذا الخطر الوجودى.

إنها حرب مفتوحة ستمتد زمنا طويلا وستكون كلفتها ثقيلة جدا على الشعوب العربية أساسا، وإن هى تمددت إلى بعض أنحاء الغرب وبعض الشرق الإسلامى البعيد.

لقد أكد الإرهاب بالشعار الإسلامى «عالميته»، مجددا، فهو يضرب فى قلب باريس كما ضرب مرات فى قلب الضاحية الجنوبية لبيروت، وكما ضرب ويضرب فى بغداد ومعظم أنحاء العراق ويحتل بعض أرضه كما بعض الأرض السورية وينهب أو يدمر الآثار التى تشهد لحضارة هذه البلاد عبر التاريخ، فضلا عن ضرباته المتكررة فى اليمن والسعودية والكويت وليبيا.
***
إنه عدو الحياة وأبناء الحياة فى كل مكان، سواء كان عند باب مسجد أو فى ملعب رياضى أو فى منتدى اجتماعى يحتشد فيه محبو الفرح.

والحرب طويلة.. ومن أسف أننا لا نملك عدتها المؤهلة لحسمها فى المدى المنظور.

رئيس تحرير جريدة « السفير» اللبنانية

اقتباس

إن «داعش» هو العنوان الصاعق لفشل الأنظمة العربية الدكتاتورية التى رفعت الشعار القومى.. مخادعة الجماهير المؤمنة بوحدة الأمة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved