أربعة أفلام أوروبية عن «حضور الغياب»!

محمود عبد الشكور
محمود عبد الشكور

آخر تحديث: الخميس 17 نوفمبر 2016 - 9:40 م بتوقيت القاهرة

تابعت على مدى أيام مجموعة من الأفلام المهمة التى قدمتها الدورة التاسعة لبانوارما الفيلم الأوروبى بالقاهرة. ربما لم تكن الأفلام بنفس قوة أفلام الدورة الثامنة، ولكنها لا تخلو أيضًا من أعمالٍ مهمة، تدفعنا للتأمل فى مصير الإنسان، وعالمه المعقد. اخترت أن أحدثكم عن أربعة أفلام هى الأفضل من الناحية الفنية، كما أنها أفلام تشترك تقريبا فى معالجتها لفكرة «حضور الغياب»، بمعنى أن الغائبين بالموت أو بالهجرة أو بالاختفاء فى هذه الأفلام، لا ينتهون أبدًا، ولكنهم يظلون فى قلب الحاضر، ويؤثرون فى الأحياء تأثيرا عميقا وغير متوقع.

الفيلم الأول، إيطالى، بعنوان «الانتظار» من إخراج بييرو ميسّينا، ومن بطولة الرائعة جولييت بينوش، وهو عمل رفيع المستوى يعتمد على روعة بنائه البصرى، وعلى براعة جولييت بينوش، وقدرتها التعبيرية، وحضورها الفائق، أما حكايته فهى لا تزيد على سطر واحد: أم تُدعى آنّا فقدت ابنها الشاب جوسيبى، ولكنها تخدع جان صديقة ابنها، وتوهمها بأن جوسيبى غائب وسيعود.

الفيلم كله لا يزيد على استضافة الأم لحبيبة الابن الميت فى قصر العائلة فى صقلية. الأم وجدت فى حبيبة الابن شيئا من ذكريات قديمة، وعبقا من ابن دفنته للتو، كما وجدت فى جان ما يذكرها بشباب الأم الغارب، فالاثنتان فرنسيتان تعلقتا بشابين إيطاليين، وتعرضت علاقتهما بالشابين لمشكلة مؤثرة: جوسيبى الراحل تعرضت علاقته مع جان لأزمة ذات صيف، وآنّا والدة جوسيبى انفصلت بالطلاق عن والده الإيطالى.

ليس فى الفيلم سوى هذه اللقاءات بين امرأتين، بينما يبدو بيترو عامل القصر العجوز مستاء لأن الأم لم تخبر جان بالحقيقة. ينتهى الفيلم بأن تعرف الفتاة حقيقة وفاة جوسيبى، ولكن بعد أن ظل حاضرا طوال الوقت، بل إننا نشاهد الأم وهى تتخيل حوارات معه. قوة هذا الفيلم فى أن الصورة شديدة الثراء سواء فى التعبير بالظلام عن لحظات الكآبة داخل القصر، أو فى التعبير عن جمال الطبيعة المشرقة حول القصر.

إنه أيضا فيلم يحضر فيه الجسد بقوة، باعتباره نقيض الفناء بالموت، ونقيض جسد الأم العجفاء، ولذلك نتأمل جسد جان الشاب، ونرى الجسد تمثالا فى الكنيسة وقت تأبين الابن، كما أن اختيار كرنفال عيد القيامة مقصود، للتأكيد على معنى قيامة الابن المستمرة من وجهة نظر أمه، ويبقى أداء بينوش التى استخدمت عينيها وحركة شفتيها لكى تعبر عن كلمات مكتومة، وعن سر تحجبه طوال الوقت، مع أنها تعانى بسببه معاناة داخلية مبرّحة.

الفيلم الثانى الذى يحضر فيه الغياب بالموت هو «حريق فى البحر»، وهو أيضا فيلم إيطالى فاز بجائزة الدب الذهبى فى مهرجان برلين 2016، ولكنه عمل وثائقى عن المهاجرين إلى جزيرة لامبيدوسا. الجديد هنا ليس مشاهد نقل المهاجرين إلى الشاطئ بعد استغاثاتهم المتكررة عبر اللاسلكى، ولا مشاهد الموتى الذين تفشل السلطات فى إنقاذهم، ولكن فى مزج هذه المأساة بحياة سكان الجزيرة المنعزلين، والذين يحترفون الصيد، ويعتبرون البحر مصدرا للرزق، ولكنهم يكتشفون أنه يحمل إليهم بشرا من عالم آخر لا يعرفونهم.

قد يتقاطع الخطان من خلال طبيب مسئول عن إنقاذ المهاجرين، وعلاجهم من أمراضهم البشعة، بل ورعاية النساء والأطفال، ولكن معنى المعالجة هو تقديم عالم الإنسان بوجهيه المؤلم والعادى، ويسود الفيلم القطع المتوازى بين مشاهد إنقاذ المهاجرين، ومعظمهم من السود، ومشاهد سكان الجزيرة البسطاء، ومنهم الصبى الغلباوى صامويل الذى يصطاد الطيور والأسماك، والذى يعانى من كسل إحدى عينيه، ومع ذلك لا تفوته التعليقات الساخرة، ومثل الزوجة العجوز التى تطلب أغنية فى الإذاعة تحية لزوجها أو لابنها الغائب/ الحاضر، أو ذلك الغواص الذى يرتزق من عمله الشاق تحت الماء.

إننا أمام لوحة إنسانية مزدوجة تجمع بين المأساة والسخرية، وتؤكد على وحدة المشاعر الإنسانية. وهناك انقسام سردى بين عالم واقعى قاسٍ يمثله المهاجرون، وعالم برىء لا يدرك خطورة العالم يمثله صامويل وصديقه، وبينهما عالم متأمل ومثير للشجن يمثله طبيب المهاجرين، والمرأة التى تطلب الأغنيات، وجدة صامويل العجوز، والغواص الغامض. هناك مشاهد مؤثرة لموت المهاجرين، وهناك تعليقات صامويل الضاحكة، وكأن قسوة الحياة، التى دفعت 17 ألف مهاجر للموت فى 15 عاما، يعادلها تفتّح صامويل للعالم، وإن كان الفيلم ينتهى بصامويل وهو يوجه طلقات وهمية بذراعه، من بندقية وهمية تخيلها، احتجاجا على أوضاع العالم المعكوسة.

ويحضر الغياب بصورة مجسدة وبديعة فى الفيلم الكرواتى الذكى «على الجانب الآخر»، وهو الفيلم الذى سيمثل بلده فى مسابقة أوسكار أفضل فيلم أجنبى. لدينا مخرج ممتاز، وممثلة رائعة، وسيناريو مدهش: ذات يوم تتلقى الممرضة البدينة فيرنا تليفونا غامضا من زوجها زاركو الذى تركها أثناء الحرب ليقاتل فى الجانب الآخر. الآن يحضر الغائب بالصوت؛ لأنه يريد أن يرى زوجته، ويود أن يلتقى بابنه وابنته اللذين تزوجا وأنجبا. فيرنا تحب زوجها الغائب الذى يستمر فى الاتصال بها، ولكن الابن والابنة يرفضان فكرة حضور الأب؛ لأن موقفه فى الحرب يشكل عارا يمكن أن يفسد حياتهما.

يجهز الفيلم لمتفرجه ولبطلته الأم المسكينة مفاجأة مذهلة، حيث تكتشف فيرنا أن الذى كان يتصل بها طوال الوقت ليس زوجها الغائب من سنوات، ولكنه جارها العجوز، الذى يعانى من الوحدة، ويشعر بالذنب من موقف اقترفه أثناء الحرب. تبكى فيرنا، ويعود الجار العجوز إلى قوقعته، ويصبح مفهوم «الجانب الآخر» أقرب مما تصورنا. الحرب والغياب ما زالا حاضرين فى كل مكان. إنها حكاية عن امتداد أثر المأساة، وهى أيضا حكاية عن الحنين والوحدة، والتى عبر عنها مخرج الفيلم بتصوير فيرنا دائما من وراء الزجاج أو الأبواب والشبابيك والستائر، وكأن الحرب جعلتها مجرد ضباب، أو مثل شبح بدون تفاصيل.

ويبقى الفيلم الرابع المهم وهو الفيلم الجورجى «منزل الآخرين»، والذى سيمثل بلاده أيضًا فى مسابقة أوسكار أفضل فيلم أجنبى. إنه أيضًا عمل باذخ الثراء بصريا، نحن أمام تأمل لحالة مجموعة من البشر الذين احتلوا منازل أعدائهم فى قرية خاوية، وذلك على خلفية الحرب فى أوائل التسعينيات بين جورجيا وأبخازيا.

نشاهد أسرتين تعيشان أهوال الحرب ومخاوفها رغم ابتعادهما عن ويلاتها: زوج وزوجة ومعهما طفل وطفلة، وأخت ترتدى الزى العسكرى، ومعها شقيقتها وابنة شقيقتها المراهقة. يبدو الزوج مذهولا وغير قادر على التكيف، ويرى فى كل مكان أشياء وحاجات الغائبين عن منازلهم، بينما تبدو امرأة الزى العسكرى شديدة القسوة على شقيقتها، وعلى ابنة شقيقتها المراهقة. تنتهى التجربة القصيرة بعودة الزوج وأسرته إلى مدينتهم، وهروب الشقيقة وابنتها من امرأة الزى العسكرى الصارمة والمسترجلة. كل مشهد أقرب ما يكون إلى لوحة تشكيلية يسودها اللونان الرمادى والأبيض، حيث السحب والغيوم، وحيث مساحات هائلة من الجليد، يسير فوقها بشر صغار يرتدون اللون الأسود. ترى هل كانت القرية حقا خالية أم أنها كانت مسكونة بأشباح الغائبين؟

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved