عن الرأى والحوار

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 17 ديسمبر 2014 - 9:10 ص بتوقيت القاهرة

انطباعاتجمعتنى وأصدقاء فرصة لقاء خارج القاهرة، سأل سائل عن الحوار الذى كلف الرئيس صحيفة «الشروق» بالترتيب له، وعندما اتضح أنه لا توجد إجابة شافية أو واضحة، قرر الآخرون أن نفتح مناقشة صريحة حول الحوار كمفهوم، تكلموا طويلا، ولم يقتصر النقاش، كالعادة، على المفهوم أو القضية المحددة وهى الحوار، إذ وجدنا أنفسنا بعد قليل نناقش مفهوم «الرأى» ومنه انتقل الحديث إلى مفهوم الرأى العام. قيل كلام كثير. بعضه أثار إعجابى باعتبار أنه قد مضى وقت غير قصير منذ أن حضرت لقاء على هذا المستوى من النضج، وبعضه أثار إزعاجا وقنوطا، وكلاهما، على كل حال يستحقان أن أوجزهما فى سطور قليلة، عساها كلها أو أقلها يصبح من موضوعات النقاش العام، ولا أقول الحوار، الذى يجب أن نمارسه فى هذه الأوقات العصبية.

•••

قيل، هناك فرق بين «رأى» و«مجرد رأى». كثيرا ما يغضب كاتب إذا طلب منه المحرر أن يسجل كتابة ما يثبت به رأيه. حجة المحرر، وهى حجة أى محرر فى صحيفة أمريكية أو أوروبية، هى أن الصحيفة المحترمة تريد «رأيا» وليس «مجرد رأى». لا يكفى أن تكتب رأيا لينشر، لأنك إذا كنت تريدنى، أنا أو غيرى من القراء، أن أوافق على رأيك وربما تتمنى أن اتبناه، فما عليك إلا أن تطلعنى على ما هو أكثر من إحساسك بأنك على حق. لا يكفى أن تؤكد أنك لم تخطئ أو تتجاوز فى رأى سبق أن كتبته، أو أن إحساسك لم يخب من قبل.

•••

وقيل إن الرأى يتحسن ويقوى وتزداد مصداقيته لو نشر فى بيئة تحترم النقد والاشتباك. لذلك نتوجه دائما بالنصح للجدد من أصحاب الرأى بأن لا يحاولوا إلباس ما يكتبون لباس العلم، أو لباس العقل وحده. فالعقل إذا احتكر عطل التفكير الخلاق وأبطل الابداع. الصحيح هو أن الإبداع ليس فى حاجة إلى كثير من العقل، أو العلم.

اختلافات الرأى لا تؤذى، بل انعدامها هو الذى يؤذى. قارن مثلا بين متعة الإنصات إلى النقاش الدائر حول بنود دستور يجرى إعداده وبين تعاسة المنصت إلى القراءة المملة للبنود ساعة كتابتها، إنه الفرق بين أيام من الإبداع والاهتمام وساعات من الضيق واللامبالاة. فى أيام المناقشة كان اختلاف الرأى حافزا للإبداع على عكس ساعات توقف فيها الاختلاف فى الرأى.

•••

علمتنا العهود السياسية والتجارب على مر السنين أن صفحة «الرأى الواحد» فى جريدة كبرى أو صغرى، صفحة مملة لا يقربها قارئ. الحال نفسه كان ينطبق، أو لعله عاد ينطبق، على شاشة تليفزيون فى قناة فضائية قومية أو إقليمية أو محلية لا تفسح مجالها لرأى آخر. هى شاشة محلية وما هى إلا فترة قصيرة ويتخلى عنها المشاهدون وبعدهم المعلنون. بل وهناك من بين كبار الصحفيين العالميين من يعتقد، وعن حق، أن صحيفة الرأى الواحد إنما يمثل صدورها إهانة لمهنة الصحافة ولجماهير القراء المتعطشين لصحافة متقدمة وقوية. وللأسف، عشت أتابع صفحة وصحيفة رأى واحد عاما كاملا خلال عملى فى الصين، وعشت معهما فى الأرجنتين عندما قرر الجنرال أونجانيا عزل الرئيس «إليا» وحكومته وتولى الجيش الحكم للقضاء على اليسارين والفوضويين. أذكر أننى شعرت فعلا بالإهانة عندما استيقظت صباح الانقلاب لأقلب صفحات الصحف اليومية المشترك فيها، فإذا بصفحات الرأى فيها بيضاء.

أذكر أيضا، وسيلومنى أصدقاء أعزاء، أن حالة مماثلة كادت تسيطر على الإعلام المصرى فى أوائل عقد الستينيات، فكانت سببا غير مباشر فى نكسة عام 1967. ولا يخفى أنها الحال نفسها القائمة الآن فى معظم الدول العربية.

•••

قيل فى اللقاء إن الإعلام الرقمى، وبخاصة الوسائط الإلكترونية، نجحت فى تطوير أسلوب كتابة الرأى والإعلان عنه وبثه، وكذلك فى «تقصير» مدة تمسك صاحب الرأى برأيه، «الرأى» أصبح فيما يبدو خيارا سريع التبدل بفضل الفيس بوك والتغريدات وغيرهما، بل وصار الانحياز لرأى واحد غير ممكن أو غير ثابت. لاحظ الحاضرون أن الآراء فى هذه الأيام تبدأ عنيدة، ربما أشد عنادا من الآراء المنشورة فى الصحف الورقية، ثم تشتبك مع بعضها البعض ثم تتداخل ثم تعتدل أو تنقلب.

لاحظوا أيضا، وأظن أنها ملاحظة مثيرة، أن الكذب صار بفضل وسائط الاتصال الإلكترونية ينكشف سريعا، والسبب أنه سرعان ما ينتشر بسرعة رهيبة مما يجعله هدفا للمتربصين وهواة الكشف عن معلومات مزيفة أو سوء نوايا أو تربيطات معينة. أما العنف المتصاعد فى التعبير عن الرأى فى الصحافة الرقمية عموما والوسائط الإلكترونية، فهذه يراها صديق فى اللقاء ظاهرة صحية لأنها ربما ساهمت فى زيادة مناعة المجتمع ضد ممارسات العنف الجسدى الذى تمارسه سلطات فى الحكم أو جماعات الإرهاب أو ظروف الحياة الشاقة.

•••

انتقل الحديث إلى علاقة السلطة السياسية بالمفكرين وغيرهم من المثقفين. قيل إن الحكومات المستبدة لا ترتاح إلى كل المفكرين والمثقفين. تخشى أن المثقف الذى كذب فى رأى نشره نفاقا لها أو تزلفا أو خوفا قد يقرر يوما أن يقول الحقيقة. قصرت المدة أم طالت، لن ينجو هؤلاء المثقفين من إجراءات أو سياسة تسهل التخلص منهم.

اكتفى أحد الحاضرين بتذكير زملائنا بمقال كتبه منذ سنوات قال فيه إن نظام الحكم الجيد والقوى، هو ذلك النظام الذى تكون الحقيقة فى عهده غير محتاجة إلى شجاعة ترافقها حيث تحل ووقتما تظهر.

•••

قال قائل، الرأى ناقص إذا لم يتضمن أحكاما. الرأى يجب أن يكون ناقدا، بل أكثر من ذلك أن يحكم ويعاقب. الصحيفة الواثقة من نفسها تعكس صفحاتها «مزاجا خلافيا»، فالمزاج الخلافى مفيد للصحيفة تماما كما هو مفيد للمجتمع. الاختلافات فى صفحات الرأى فى أى صحيفة كبيرة أو صغيرة دليل «صحة وعافية» للصحيفة وأصحابها، والاختلافات فى الرأى العام دليل صحة وعافية المجتمع. والشعب الحر الواثق من نفسه وقدراته ومشروعية مطالبه هو الشعب الذى يحاور ويجادل ويشتبك فى حواراته.

صحيفة واثقة من نفسها، ومجتمع واثق من نفسه نظاما وشعبا، ومواطن يتمتع بكامل شروط المواطنة، التى هى عقل متيقظ وقلب متفتح وجلد سميك، مكونات ضرورية للاستقرار والسلام الاجتماعى. ننظر حولنا، ماذا نرى؟ نرى مواطنا أمينا ومخلصا يائسا من تجاوزات فى أساليب تعامل السلطة مع المواطنين، ومن حال «الميديا» بكل أشكالها وأفعالها وبخاصة تدهور أمانة الكلمة المقروءة والمسموعة، وسقوط كثير من أخلاقيات المهنة الصحافية ومهن أخرى كانت فى الظن محترمة. الغريب، أن قطاعات فى الحكم يائسة بنفس درجة يأس المواطن الأمين الشريف.

•••

فى نهاية اللقاء عاد صديق ليسأل، لماذا هذا التردد فى إقامة الحوار؟ لم ينتظر إجابة بل راح يضيف أنه قد يكون وراء التردد طرف أو آخر يخشى أن يبدأ الحوار ويفشل فيتوقف. ينسى هذا الطرف أو ذاك حقيقة أن الحوار فى المجتمعات ممارسة مستمرة تجرى بين عقلاء الأمة. دليله هو أن كبار مفكرى العصر ما زالوا يتحاورون مع مفكرى عصور مضت. الحوار سمة المجتمعات الذكية. هذا لا يعنى بالضرورة أن نكون أمة من الأذكياء لنقيم حوارا. المهم ألا نكون أمة من الأغبياء أو أمة خلت من العقلاء.

لم تخرج أمة من غياهب التدهور والتدنى إلا بتوافر القوة الوحيدة القادرة على إحداث التغيير ومنع السقوط، هذه القوة هى الفكر الواضح والذكى، ولا شىء آخر.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved