مقدسيون ومطبعون

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الأحد 17 ديسمبر 2017 - 9:05 م بتوقيت القاهرة

قضية القدس حساسة وشائكة ومصيرية.
تلك حقيقة نهائية تستدعى أوسع تضامن شعبى عربى، فاعل ومتصل، لدعم صمود المقدسيين فى البلدة القديمة.
كيف؟.. هذا هو السؤال.
أسوأ إجابة ممكنة دعوة الجمهور العربى ـ على اختلاف توجهاته ومشاربه ـ لزيارة القدس وتجاوز جميع المحظورات، التى استقرت لعقود طويلة.
الفكرة قديمة والإلحاح عليها معتاد من رئيس السلطة الفلسطينية «محمود عباس» فى تصريحات عامة، أو باجتماعات مغلقة ـ كما استمعت أكثر من مرة، ومن عباراته الأثيرة أن «زيارة السجين لا تعنى تطبيعا مع السجان».
لم تكن هناك مفاجأة أن يدعو مجددا إلى زيارة الأراضى المحتلة من على منصة القمة الإسلامية الطارئة، التى التأمت بإستنبول للرد على اعتراف الرئيس الأمريكى بالقدس عاصمة لإسرائيل وشروعه فى نقل سفارة بلاده إليها.
كما لم تكن هناك أى مفاجأة أن يردد الدعوة نفسها ــ قبله بأيام ــ وزير خارجيته «رياض المالكى» أمام الاجتماع الطارئ لوزراء الخارجية العرب بالقاهرة.
فى الاجتماعين الطارئين لم يعلق أحد، ولا وردت أى إشارة فى البيانين الختاميين، لا بالسلب ولا الإيجاب، إلى ما ذهبت إليه السلطة الفلسطينية، ولا السلطة نفسها بذلت جهدا يعتد به فى الكواليس لتضمين دعوتها فى قراراتهما.
لم يكن أحد مستعدا أن يتحمل شبهة الدعوة إلى التطبيع، والرأى العام يتابع وتساؤلاته فى حقيقة المواقف عند ذروتها، ولا كانت رئاسة السلطة الفلسطينية معنية بردات الفعل الرسمية، فهى تعرف ـ ربما بالتفاصيل ـ مدى تورط بعض الدول العربية والإسلامية فى التطبيع العلنى والسرى مع الدولة العبرية.
الحقيقة أنها أرادت مخاطبة الرأى العام العربى مباشرة واستثمار اللحظة لدفع قطاعات واسعة لزيارة المدينة المقدسة باسم دعمها دون التنبه إلى أن أهم قرار رمزى صدر عن القمة الإسلامية الاعتراف بالقدس عاصمة تحت الاحتلال لدولة فلسطين.
المعنى الصريح أن من يزورها فهو مطبع دون أدنى لبس مع السجان بلا ادعاء أن بوسعه أن يدعم سجينا، فكل شىء يمضى تحت الرقابة العسكرية الإسرائيلية، تمنح وتمنع أختامها للمرور إلى حيث المقدسات الإسلامية والمسيحية.
باليقين فإن جمهرة الرأى العام من المحيط إلى الخليج لن تلبى الدعوة، وقد تنحرف السجالات من كيف ندعم الانتفاضة إلى مآلات أخرى لا تليق بالتحدى الوجودى الماثل.
وباليقين فإن المطبعين أنصار الرواية الإسرائيلية، والذين يودون لأسباب مختلفة مد التواصل مع الدولة العبرية، سوف يجدون فى مثل هذه الدعوة غطاء أخلاقيا لارتكاب أبشع التنازلات بحق أية قيمة وبيئة مواتية لعقد الصفقات التجارية والسياسية مع دولة الاحتلال.
ذلك يفضى إلى إرباك المشهد الفلسطينى، الذى بدأت انتفاضته الثالثة تأخذ مداها، وصور المقاومة الشعبية تلهم العالم أن هناك شعبا يقاوم قوات احتلال تضرب بالرصاص الحى المظاهرات السلمية، تطارد بالخيالة تخويفا وإرهابا، تفض اعتصامات فى محيط المسجد الأقصى بأقصى درجات القوة، تقصف غزة وتغلق معبريها مع القطاع المحاصر، وتعتقل المئات من داخل بيوتهم فى المدينة المقدسة والضفة الغربية، التى يفترض أن للسلطة ولاية عليها!
بعض الصور يثبت دون ادعاء أن قضية القدس غير قابلة للتصرف، أو المقايضة.
وبعضها الآخر يكشف مدى الاستعداد للتضحية والمواجهة من أصحاب الحق فى المستقبل من شبان وشابات يتصدون لجنود الاحتلال دون خشية أو وجل، وبشجاعة لا نظير لها.
بالتوقيت تبدو الدعوة الرسمية لزيارة القدس كقنبلة دخان تحجب الأسئلة الرئيسية التى يتوجب الإجابة عليها.. الآن وليس غدا.
ما مستقبل المصالحة الفلسطينية وتحت أى أفق سياسي؟.. ما الخطوات العملية التى يتعين اتخاذها لدعم الانتفاضة الثالثة حتى لا تجهض أو تتبدد تضحياتها؟.. وما العمل بعد أن أزهقت تماما أية رهانات على اتفاقية «أوسلو»، التى كان «عباس» عرابها الأول، فى أن تصل إلى أى شىء يعيد للفلسطينيين بعض حقوقهم العادلة فى أراضيهم المحتلة؟
وما مستقبل السلطة ومدى قدرتها على اتخاذ القرار الصعب بحلها ـ وقد أبدى «عباس» نفسه أكثر من مرة فى حوارات ضمتنا اقتناعه بهذا الخيار الأخير، لكنه أرجأه إلى الوقت المناسب، فإذا لم يكن الآن وقت المراجعة الكاملة للسياسات والخيارات والأخطاء والخطايا فمتى؟
وبالتوقيت فإن الدعوة الملحة لزيارة القدس تربك الغضب العربى بمسيحييه ومسلميه على نحو قد يسحب من زخم دعم الانتفاضة الفلسطينية.
العمل الشعبى الاحتجاجى بالأراضى المحتلة، فى القدس بالذات، هو جرار لموجات الغضب العربى، وقدرة الرأى العام على الضغط على حكوماته، وبعض مواقفها رخوة والبعض الآخر عليه تساؤلات وشبهات.
كما أن استمرار الاحتجاجات بالعالمين العربى والإسلامى، وداخل الحواضر الأوروبية نفسها من أصحاب الضمائر الإنسانية، ضرورى لإمداد الانتفاضة بفوائض ثقة فى النفس والقدرة على مواصلة أدوارها فى عرض قضيتها كما يجب أن تطرح: شعب تحت الاحتلال يمارس حقه فى المقاومة.
إذا ما حرفت القضية عن مسارها الطبيعى فكل شىء سوف يتقوض، الانتفاضة تجهض قبل أن تحقق أهدافها، والتطبيع يمضى بخطى متسارعة إلى حيث تطلب إسرائيل.
مثل هذه الملفات الحساسة تحكمها المبادئ لا النوايا.
وقد كان مثيرا أن يتبنى وزير الخارجية اللبنانى «جبران باسيل» أن تكون القدس الشرقية عاصمة فلسطين مقرا لسفارة بلاده من الآن، وهو خيار مستحيل فى مدينة تحت الاحتلال.
هذا النوع من التفكير السياسى لا يؤسس لمواجهة حقيقية وإن سادته لهجة رومانسية.
ما نحتاجه بالضبط إدراك الحقائق والعمل على دعم المقدسيين دون تورط فى التطبيع المجانى.
من أهم الحقائق ـ فى بلد عربى جوهرى مثل مصر ـ ذلك الإجماع بين قواه الحية ونقاباته ومثقفيه على رفض جميع أشكال التطبيع منذ أواخر سبعينيات القرن الماضى.
وقد كان دفاعا شعبيا عن الأمن القومى واحترام البلد لنفسه وتاريخه وهويته فى مواجهة استحقاقات المعاهدة المصرية الإسرائيلية، التى وضعت التطبيع على رأس أولوياتها، لكنه استحال إلى ما سمى بـ«السلام البارد»، الذى يراد له الآن أن يكون دافئا ومجانيا.
لم تكن مصادفة أن أول منظمة شعبية أنشئت فى ذلك الوقت لمقاومة التطبيع حملت اسم «لجنة الدفاع عن الثقافة القومية» فى إشارة إلى تلازم رفض التطبيع مع كل ما له قيمة ثقافية وحضارية وتاريخية.
ولم تكن مصادفة أخرى الموقف الذى انتهجته الكنيسة الوطنية المصرية فى تحريم ذهاب الحجاج المسيحيين إلى المدينة المقدسة المحتلة، حتى لا يقال إن «أقباط مصر خونة الأمة العربية» ـ حسب تعبير البابا الراحل «شنودة الثالث» الذى كانت عباراته المتحدية تتردد فى الفضاء العام، رفضا لأى تطبيع حتى تتحرر القدس.
ليست هناك مصلحة واحدة فى الخروج عن المتطلبات الحقيقية للمواجهة الجارية الآن على الأرض الفلسطينية المحتلة، التى تقتضى نصرة القدس لا خذلانها بالتطبيع المجانى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved