إحسان في ذكرى المولد والرحيل

نيفين مسعد
نيفين مسعد

آخر تحديث: الخميس 18 يناير 2018 - 9:50 م بتوقيت القاهرة

وكأن الأقدار شاءت أن يكون يناير من كل عام هو شهر شروق شمس إحسان عبد القدوس وغروبها، ففي 1 يناير من عام 1919 كان مولده وفي 12 يناير من عام 1990 كان رحيله. تكشف المصادفة عن أنه بعد خروجه للدنيا خرج المصريون في ثورة شعبية قادها حزب الوفد احتجاجا علي الاحتلال البريطاني وسياساته، وكأن خَلْقَ إحسان ارتبط ومنذ البداية بظاهرة التمرد. وعندما رحل عنّا إحسان ارتبط رحيله بتمرد من نوع آخر دفعت المنطقة العربية ثمنا غاليا له. كانوا قد علّمونا أن الأمن القومي العربي كلُ لا يتجزأ ثم جاء احتلال الكويت ليقلب الموازين ويفتح الأبواب أمام التدخل العسكري الأجنبي. يشتط خيالي قليلا فيهيئ لي أن مولد إحسان سبق ثورة 1919 بشهرين ومهد لها، وأن رحيله استبق الفُرقة العربية بستة أشهر وفّر منها، ولا أرى ضيرا في ذلك ففي حضرة صاحب الخيال العريض ممنوع أن يُحبَس أي خيال.

***

شكّل أدب إحسان عبد القدوس وعي أجيال متتالية منها الجيل الذي أنتمي إليه ، قرأنا له في صبانا وشبابنا وفاجأنا نحن النساء أنه يعرف الكثير عنّا، تماما كما كان نزار قباني يعرف عنّا، يبدو لي وكأن إحسان تحَدَدَ دوره في أن يجسد مشاعر النساء نثرا في قصصه ورواياته ليعود نزار ويلملمها في قصائده وأبياته. من فرط التماهي بين الخيال والواقع في أدب إحسان كان كثيرا ما يطاردني سؤال: من أنبأه بما يدور في رأسي ومن أذِن له أن يكشف خبيئتي ؟ .. أقرأ له فيساعدني أن أفهم نفسي، ولحسن الحظ أنه عندما بدأ يتكون إدراكي كان إحسان قد أنتج حصيلة ثمينة جدا من الروايات والقصص القصيرة فقمة عطائه الأدبي ارتبطت بعِقدّي الخمسينيات والستينيات، وهكذا فلم أبدأ في مطالعة أدب الآخرين إلا بعد أن التهمت كل ما احتوته المكتبة العامة في ميدان الروضة بحي المنيل من أعماله هو.

***

لكن بين كل ما كتب إحسان فإن لبعض أعماله منزلة خاصة جدا في نفسي، أحب "أين عمري" هذه القصة التي تحكي عن طفلة كبيرة وجدت نفسها فجأة في موقع الزوجة لكهل غيور سلبها أجمل سنين عمرها، وعندما مات الزوج قررت أن تعوض ما فاتها من طيش وانطلاق وتعيد عقارب الساعة للوراء. هذه البطلة التي تحلم بفستان الزفاف الأبيض والكعب العالي هي كل بنات الأرض، يُسمعنا الأهل منذ ولادتنا تمنياتهم الطيبة بابن الحلال ويغرسون في مخيلتنا أن باب الزوجية يفتح على جنات عدن، يُخّزنون لنا طقم الصيني والسجاجيد ونحن صغار ويحوّلونا مُلاّكا لأشياء ثمينة لا تعنينا. ليس كل زوج هو عمو عزيز بالتأكيد لكن كل بنت هي عليّة. وأحب "أنا حرة" أو قصة هذه الأمينة التي تتمرد على تقاليد المجتمع الشرقي فتقرر أن تعيش حياتها كما تريد لا كما يريد لها الآخرون، حتى إذا كبرت أدركت أن الحرية المطلقة مفسدة مطلقة وتنبهت لحرية من نوع آخر هي حرية الوطن. بين تمرد علية وتمرد أمينة قاسم مشترك هو التبرم من قيود المجتمع، البطلتان أيضا كانتا ضحيتّي قلق الأم الأرملة والعمة المحافظة من مسؤولية تربية البنات، وكلتاهما ارتبطتا في النهاية بالبطل الناصح الأمين : الدكتور خالد في " أين عمري " ، وعباس المناضل السياسي في "أنا حرة ". مجرد عقد هذه المقارنة يوضح أن إحسان حين كان يكتب عن نماذج نسائية غير تقليدية سرعان ما كان ينتقل بها إلى حيث تتوافق مع نظرة المجتمع، وقد تكرر هذا في العديد من أعماله " النظارة السوداء" و "لا أنام " و" لا تطفئ الشمس".

***

لكن هذا التصحيح الذي كان يمارسه إحسان لمفهوم الحرية لم يكن كافيا فليس مسموحا من الأصل الحكي عن غير المألوف، وعلى الجميع أن ينتظموا في طوابير الفضيلة النهارية حتى وإن مارسوا كل أنواع الرذيلة في جنح الظلام. وهكذا صارت الحرية التي هي القيمة الأعلى في أدب إحسان جريمته التي لا تغتفر، رفضها المحافظون اجتماعيا في "البنات والصيف" و"أنف وثلاثة عيون" واستُجوِب بسبب هذه الأخيرة وزير الإرشاد القومي في مجلس الأمة. ورفضها المحافظون سياسيا في رائعته "في بيتنا رجل" وفي "علبة من الصفيح الصدئ" وفي حواراته على "المقهى في الشارع السياسي". أكاد أقول أن إفلات باقي أعمال إحسان من المطاردة الأخلاقية والسياسية محض صدفة لا أكثر، فقد كان بوسع الانتهازيين دائما أن يدعوا وجود إسقاط سياسي لشخصية مثل حسين باشا شاكر في "شيء في صدري" أو خالد بك مدكور في "الراقصة والسياسي" على الجالسين في مقاعد الحكم، لكنهم لسبب ما لم يفعلوا. كما أن قصصا من نوع "بئر الحرمان" أو "حكاية الدكتور حسن" ليست أقل جرأة من القصص التي أقامت الدنيا ضد إحسان ولم تُقعدها، لكنها لم تسترع الانتباه وهذا فضلٌ كبير.

***

في 12 يناير الماضي احتفلت أسرة إحسان عبد القدوس بتوزيع الجوائز المرصودة باسمه في مجالات الرواية والقصة والنقد الأدبي، أسعدني جدا أن يتردد اسم إحسان بين جنبات دار الأوبرا فهذا مقام يليق به تماما، وأسعدني أن تعاد طباعة أدبه وقراءته والتنافس باسمه بين الأدباء المحدثين، أسعدني ذلك لأني ممن يُقدِّرون قيمة إحسان ولأننا في مواجهة سيف الازدراء المشهر في وجه الإبداع والمبدعين ليس أمامنا إلا الهروب إلى أدب إحسان وحريته.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved