حرب واستعمار وكرة القدم ..مفردات أزمة دولية جديدة

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الخميس 18 مارس 2010 - 10:27 ص بتوقيت القاهرة

 مخطئ من يعتقد أن الاستعمار انتهى وأصبح فى ذمة التاريخ وأن انجلترا لم تعد دولة امبريالية، ومخطئ من يتصور أن الولايات المتحدة تستطيع أن تقف محايدة بين حليف وإن كان متعديا وصاحب حق وإن كان جارا، ومخطئ من قال إن الحالة المصرية ــ الجزائرية المؤسفة كانت حالة نادرة فى علاقة كرة القدم بالسياسة ولن تتكرر، ومخطئة جماعة «المثقفون الجدد» فى العالم العربى التى تأمل فى مستقبل لقضية فلسطين ينسى فيه شعبها وشعوب عربية أخرى واجب استعادة فلسطين.

مخطئون عديدون جمعتهم فى الأسبوعين الأخيرين المواجهة الجديدة، أو بمعنى أدق المواجهة المتجددة، بين بريطانيا والأرجنتين. حين أصدرت كريستينا كيرشنر رئيسة جمهورية الأرجنتين قرارا يحرم على جميع أنواع السفن الأجنبية الاقتراب من جزر المالفيناس (الفولكلاند) بعد أن أعلنت شركتان غربيتان عن نيتهما حفر آبار للتنقيب عن النفط، فى منطقة من المحيط الأطلسى قريبة من الجزر يقال إن حجم احتياطى النفط بها يقارب حجم احتياطى المملكة العربية السعودية. أما السؤال عن كيف نجحت المواجهة المتجددة بين الأرجنتين وبريطانيا فى الجمع بين أطراف وقضايا كثيرة، فتجاوب عليه قصة جزر المالفيناس وتطوراتها الأخيرة.

يقع أرخبيل المالفيناس فى أقصى جنوب المحيط الأطلسى، ويتكون من جزيرتين كبيرتين هما جراند مالفينا وسوليداد ونحو مائتى جزيرة صغيرة. ويبعد الأرخبيل عن أقرب نقطة على الساحل الأرجنتينى مسافة أربعمائة ميل بحرى.

تكاد الجزر فى أغلب أنحائها تخلو من الأشجار بسبب شدة الرياح والبرودة والرطوبة، ويعمل سكانها بتربية الخراف والتجارة فى أصوافها.

يبدأ التاريخ المعروف للجزر بوصول ماجيلان خلال رحلته الشهيرة إلى آسيا مارا بجنوب الأطلسى، ومن بعده جاء مكتشفون فرنسيون وبريطانيون، احتل الفرنسيون منهم إحدى الجزيرتين الكبيرتين واحتل البريطانيون الجزيرة الأخرى.

وفى عام 1770 اشترى الأسبان الجزيرة التى احتلها الفرنسيون، وكانوا فى ذلك الوقت القوة الامبريالية المهيمنة فى أمريكا الجنوبية، وطردوا الإنجليز من الجزيرة الثانية. وفى عام 1816 ورثت الأرجنتين، بين ما ورثت عن التاج الإسبانى، الأرخبيل. وفى عام 1820 أعلنت حكومة بيونس أيرس سيادتها على الجزر.

وبعد ثلاثة عشر عاما من الإعلان الأرجنتينى وصل الأسطول البريطانى إلى الأرخبيل واستولى عليه، ولكن لم تعلن بريطانيا الأرخبيل مستعمرة انجليزية إلا فى عام 1892. ومنذ ذلك الحين لم تتوقف الأرجنتين عن المطالبة باستعادة الجزر، واشهد من واقع معايشتى للشعب الأرجنتينى لسنوات غير قليلة أنه بجميع فئاته لم يستسلم لواقع الاحتلال البريطانى لجزء من أراضى الأرجنتين وإن كانت على بعد مئات الأميال، وأشهد أيضا أن كثيرا من السياسيين الأرجنتينيين استغلوا القضية فعملوا على إثارتها وتعبئة الشعب حولها فى كل مرة تعرضت البلاد لأزمة اقتصادية أو اجتماعية حادة.

حدث مثلا فى عهد حكومة الجنرال ليوبولدو جاليتيرى، وكان واحدا من أسوأ عهود الظلم وإرهاب الدولة، أن أعلنت الحكومة شن الحرب على بريطانيا وقامت بعملية غزو بحرى للجزر واحتلتها لمدة 74 يوما وانتهت الحرب بهزيمة القوات الأرجنتينية وخسارة 255 قتيلا لبريطانيا و649 قتيلا للأرجنتين. مر على هذه الحرب نحو ثلاثين عاما ويبدو أن عواصم كثيرة لم تتصور أن تثير الأرجنتين القضية من جديد وتصعدها إلى حد إعلان السيدة كيرشنر رئيسة الجمهورية فرض حصار بحرى جديد على الجزر. وفى أعقاب هذا التطور طرأ توتر شديد على جو العلاقات بين الدول الغربية.

***

اجتمعت دول أمريكا اللاتينية وأمريكا الوسطى فى منتجع كانكون الشهير بالمكسيك وقررت دعمها الكامل للإجراءات التى اتخذتها حكومة بيونس أيرس وتأكيد حق الأرجنتين فى سيادتها على الجزر.

وبعد أيام قليلة وصلت السيدة هيلارى كلينتون إلى العاصمة الأرجنتينية لتقترح على حكومتها إحالة القضية إلى لجنة تصفية الاستعمار التابعة للأمم المتحدة. وسرعان ما تناقلت أجهزة الإعلام هذا الموقف الذى فاجأ السياسيين فى عديد من الدول، إذ لم يعرف عن أمريكا فى السابق حرصها على استمرار هذه اللجنة أو إحالة قضايا إليها، كما أن تسرع السيدة هيلارى كلينتون خلف الانطباع بأن واشنطن تتعمد الإساءة إلى لندن استمرارا لحالة خلافات عديدة ناشبة بين العاصمتين منذ فترة غير قصيرة.

كان الموقف الأمريكى خارجا على مألوف الدبلوماسية الأمريكية بل إن أحدا لم يعقل أن أمريكا ستؤيد يوما فكرة أن يطرح على المجتمع الدولى موضوع السيادة على الجزر.

كان منطقيا ومتوقعا رد فعل الانجليز الذين هددوا عن طريق وسائل الإعلام ورسائل سرية بسحب قواتهم من أفغانستان. بل إن تصريحا رسميا صدر فى لندن وردت فيه عبارة «بعد كل ما فعلنا منذ سبتمبر 2001، كنا ننتظر على أقل القليل دعما معنويا من واشنطن». هكذا بدا واضحا أن الخلافات حول موضوع تعذيب المشتبه فى ممارستهم الإرهاب، ونشر تقارير تمس أسرار وكالة الاستخبارات الأمريكية. والإفراج عن عبدالباسط المقراحى المعتقل فى سجون اسكتلندا لإدانته بارتكاب جريمة إسقاط طائرة بأن أمريكان فى عام 1988 وادعاء بريطانيا كذبا أن الرجل سيموت نتيجة مرض خبيث بعد ثلاثة أشهر، ولم يمت حتى الآن. بالإضافة إلى ما يتردد عن أن لندن لم ترتح إلى أوباما.

لا تنسى لندن ما جاء فى مذكرات أوباما «أحلام من والدى»، التى حكا فيها عن تعذيب جده على أيدى القوات الاستعمارية البريطانية أثناء نضالات الاستقلال الوطنى التى أطلق عليها الإنجليز تمرد الماو ماو، فضلا عن تعليماته التى أصدرها عند دخوله المكتب البيضاوى فى البيت الأبيض حين طلب إخراج التمثال النصفى لوينستون تشرشل الذى قضى فى مكانه بالمكتب ثمانى سنوات.

هذه القضايا مجتمعة ازدحم بها ملف الخلافات الأمريكية ــ البريطانية فى الفترة الأخيرة. لذلك لم يكن مفاجئا الموقف الأمريكى الذى أعلنته هيلارى كلينتون، وفحواه أن أمريكا «تؤيد إدارة بريطانيا للجزر ولكن لا تؤيد فرض سيادتها عليها». من جهتى اعتقد أن الموقف الأمريكى ناتج عن تسرع وسوء فهم أكثر منه انتقاما من بريطانيا أو كسبا لود الأرجنتين وأمريكا الجنوبية. وأظن أننا سنرى قريبا تراجعا فى الموقف الأمريكى لأن واشنطن لا تملك أن تكون محايدة فى السياسة الدولية وهذه قضية أخرى مكان التفصيل فيها ليس هنا.

من ناحية أخرى أعلنت إسبانيا، بصفتها الرئيس الحالى للاتحاد الأوروبى، تأييد الاتحاد لموقف بريطانيا فى نزاعها مع الأرجنتين. حدث هذا على الرغم من أن إسبانيا طرف غير مباشر فى هذا النزاع وغيره من نزاعات تاريخية تنشب فى الأمريكتين، وعلى الرغم أيضا من أنها التزمت فى مؤتمرات عديدة بدعم دول أمريكا الجنوبية باعتبارها شريكا لها فى تنظيم ثقافى وسياسى واحد.

***

فى الأرجنتين تحرك الشارع كعادته فى القضايا الوطنية مؤيدا حكومته. المثير أنه فى دولة يتمحور النشاط الاجتماعى، وأحيانا السياسى، حول كرة القدم، كان طبيعيا أن يحدث ما يذكرنا بتجربة مررنا بها وكانت مماثلة فى الأهداف والتفاصيل.

خرج نبأ من الأرجنتين يعلن أن مشجعى كرة القدم الأرجنتينيين قرروا البدء فى تنظيم الصفوف استعدادا للسفر إلى جنوب أفريقيا «لمقاتلة» المشجعين البريطانيين الذين سيرافقون الفريق الانجليزى إلى مباريات كأس العالم. إلى هنا والخبر عادى حتى وإن فاحت من سطوره رائحة الاستعداد للمقاتلة.

ثم تبين أن حكومة الأرجنتين قررت تمويل سفر ثلاثمائة من الأشخاص المدربين بواسطة أجهزة الأمن الأرجنتينية على مواجهة أعمال الشغب.

هؤلاء الثلاثمائة قامت هذه الأجهزة باستدعائهم قبل أيام قليلة عندما نما إلى علمها أن «أعمال عنف يجرى التحضير لها فى بريطانيا» ضد الفريق الأرجنتينى وقررت أن يسافر مع الفريق عشرون ضابط أمن لمساعدة أجهزة الأمن فى جنوب أفريقيا على التعرف على العناصر المشاغبة المندسة بين المشجعين الانجليز.

جدير بالذكر أن السلطات الأمنية فى الأرجنتين جندت هؤلاء الأشخاص من بين مجموعات من الشبان الخارجين على القانون والمعروفين فى الأرجنتين باسم «المشجعون المتطرفون» Barras Bravas.

تشتهر هذه الجماعة بممارسة أقسى أنواع العنف كثيرا ما تستخدمها قوى الأمن وكذلك منظمات الجريمة المنظمة، ويتردد أنها مسئولة عن إدمان الشباب للمخدرات، وأن مارادونا نفسه أحد ضحاياها. ينضوون أحيانا تحت لواء تنظيم أشمل يطلق على نفسه «المشجعون المتحدون لكرة القدم» Hinchas Unidas Argentinas.

***

هكذا تكتمل لأزمة دولية عناصرها المتميزة: تاريخ وجغرافيا واستعمار وجيوش وقضية وطنية ومشكلة اقتصادية وصراعات سياسية داخلية ومسجلون خطر وكرة قدم.


هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved