المذبحة ترفع يدها

تميم البرغوثى
تميم البرغوثى

آخر تحديث: الثلاثاء 18 مايو 2010 - 10:05 ص بتوقيت القاهرة

فى الذكرى الثانية والستين لقيام دولة إسرائيل وطرد الفلسطينيين من ديارهم، ما زالت إسرائيل تذكرنا بنفسها، فقد أورد موقع قناة الجزيرة الإلكترونى، يوم الرابع من شهر آيار/ مايو الجارى، نقلا عن مؤسسة التضامن الدولى لحقوق الإنسان، أنه فى خلال شهر نيسان/ أبريل الماضى، قتلت إسرائيل أحد عشر فلسطينيا، خمسة فى غزة وستة فى الضفة، وقبل أن أكمل هذا المقال، أرجو أن يسمح لى القارئ أن أذكر أسماءهم وأعمارهم وظروف مقتل كل منهم، لأن فيها معنى يصعب إغفاله:

فى غزة استشهد كل من مروان الجربة، وعمره خمسة وعشرون عاما، ووائل أبوجلالة وثالث مجهول الهوية فى اشتباك مسلح بمنطقة جباليا بعد توغل لقوات الاحتلال فيها، أى أن الثلاثة كانوا مشتبكين مع جنود العدو.

ثم استشهد أيضا محمد جمعة سليم وعمره أربعة وعشرون عاما من حى الشجاعية فى قصف إسرائيلى على مخيم جباليا، واستشهد أحمد سليمان سالم، من حى الشجاعية كذلك، حين أطلق جيش الاحتلال النار عليه لمشاركته فى مسيرة أقيمت احتجاجا على الحزام الأمنى فى قطاع غزة، كان عمره تسعة عشر عاما.

أما فى الضفة الغربية فقد قتلت إسرائيل ستة شهداء هم الطفلة ماسة على حسين فقهاء، ولها ستة أعوام وأختها جَنَى على حسين فقهاء، ولها خمسة أعوام، من بلدة طوباس القريبة من جنين. قتل جيش الدفاع الإسرائيلى الطفلتين عندما صدمت سيارة جيب عسكرية بسرعة فائقة الجرار الزراعى الخاص بعائلة الشهيدتين الطفلتين، والسيارة العسكرية الإسرائيلية صدمت الجرار الزراعى الفلسطينى من الخلف فلم يستطع سائق الجرار تفاديها وكانت الطفلتان على الجرار بصحبة بعض أهلهما، فقتلتا فى الحال.

واستشهدت الفتاة سمر سيف رضوان، ولها واحد وعشرون عاما، من قرية اللِبَّن الشرقية قرب نابلس، دهسها مستوطن وفرَّ، واستشهد محمد ضامن عبدالكريم عُلَيَّات، وله اثنان وستون عاما من دير ضعيف قرب جنين بنوبة قلبية لطول الانتظار على حاجز الحمرا العسكرى قرب طوباس أثناء توجهه إلى أريحا حيث كان ينوى الخروج إلى الأردن لزيارة بعض أهله هناك، واستشهد الأسير رائد أبو حماد، وله سبعة وعشرون عاما، من العيزرية قرب القدس، فى زنزانة انفرادية قضى فيها عاما ونصف العام فى سجن بئر سبع، واستشهد إسماعيل على السويطى وله خمسة وأربعون عاما من قرية بيت عوا قرب الخليل، حاصره جيش الاحتلال فى بيته وهدمه.

هل لاحظ القارئ أمرا غريبا؟ إن الشهداء فى غزة كانوا كلهم شبابا وقتلوا وهم يقاومون الجيش الإسرائيلى بطريقة أو بأخرى، فقد استشهد ثلاثة منهم فى اشتباك مسلح، والرابع فى مظاهرة احتجاج، والخامس فى قصف على المخيم يتلوه أو يسبقه اشتباك أو محاولة للاشتباك.

أما فى الضفة، فالشهداء طفلتان لم تبلغا السابعة من العمر، وامرأة صغيرة السن، ورجل مسن مريض بالقلب، وأسير فى زنزانة انفرادية، ورجل لم يغادر بيتا هدمه الجنود عليه.

هذا والضفة تحت حكومة تنبذ العنف وتتبنى المفاوضات، وغزة تحت حكومة لا تنبذ العنف ولا تتبنى المفاوضات، لقد بلغت إسرائيل من قتل مسالميها ما لم تبلغه من قتل مقاوميها، وقد يقال إن هذه مصادفة ولا دلالة لها، ولكن ست مصادفات فى شهر واحد كثير، تقتل فيه طفلتان ورجل عجوز وامرأة وأسير.

لا أريد أن أقول إن مقاومة إسرائيل تؤدى إلى وقف القتل، إنما أريد أن أبين أن مسالمتها لا تؤدى إلى وقفه. واليوم فى الذكرى الثانية والستين للنكبة، يكثر من يحاول إقناع الناس بترك مقاومة إسرائيل إلى مسالمتها محتجا بكثرة القتل، وتعب الناس، والقتل حقيقى والتعب كذلك، ولكن الراحة المفترضة فى السلم لا تبدو حقيقية إطلاقا.

إن أكثر العرب بدأوا عملية السلام مع إسرائيل منذ تسعة عشر عاما إلا أشهر. لم يكن أحد من الذاهبين إلى مؤتمر مدريد يزعم أن المفاوضات ستحرر البلاد، ولكنهم زعموا لنا ووعدونا أن المفاوضات ضرورية أساسا لوقف القتل ولوقف الاستيطان. وأذكر أن الخطاب السياسى وقتها كان يتركز حول هذين المحورين فكان يقال لنا إننا لو تأخرنا فى المفاوضات فسوف تبتلع المستوطنات ما تبقى من الأرض فى كل من الضفة وغزة والقدس، وكان يقال لنا إن الناس فى فلسطين قد تعبوا من طول المواجهة، وأن المفاوضات ستتيح فرصا للرخاء الاقتصادى.

ونحن فى غنى عن ذكر أن العكس تماما هو الذى تحقق، فزادت المستوطنات ضعفين وقدر كل من البنك الدولى وصندوق النقد أن مستوى المعيشة ودخل الفلسطينيين أصبح أسوأ بكثير بعد إقامة السلطة الوطنية عما كان عليه قبلها.

وكان يقال إن السبب فى ذلك هو أن الفلسطينيين لم يكونوا كلهم جادين فى عملية السلام، حيث قام بعضهم بهجمات متتالية على إسرائيل توقفت المفاوضات على إثرها، وإن ما حدث ويحدث لهم هو عقاب ذلك وعقباه.

ولكن منذ بضع سنين انفصل الفلسطينيون الراغبون فى السلام عن الفلسطينيين الراغبين عنه، ولا يمكن أن يشكك أحد فى أن الحكومة الفلسطينية فى الضفة الغربية جادة فى طلب السلم، وأنها جادة أكثر فى رفض الحرب، وبالرغم من ذلك، فإن عقاب إسرائيل يطولها هى، فالاستيطان فى الضفة لا فى غزة، والقتل فى كليهما، وفى الشهر الماضى كان القتل فى الضفة أكثر منه فى غزة.

إن إسرائيل لا تراعى حلفاءها فضلا عن مسالميها، لقد تجسسوا على الولايات المتحدة وهى من هى، أفنحن، أو المسالمون منا، أعز على إسرائيل منها؟ أو لا يذكر الناس أننا خرجنا من بيروت عام اثنين وثمانين لكى يكفوا عن القتل فكأن القتل لم يبدأ إلا بعد خروجنا، وصور الجثث المكومة فى أزقة صبرا وشاتيلا موجودة لمن شاء أن يتأملها مرة أخرى.

إن هناك بعض الأصوات التى تطلب الانتظار لبضع سنين أخرى لإعطاء السلام فرصة، والاستيطان والقتل والفقر مستمر كله، والله مع الصابرين. لكن ألا يجدر أن يبدأ حوار فلسطينى عن خطة بديلة إذا ما فشلت سياسة الانتظار هذه؟ إن انهيار عملية السلام فى الضفة لا بد وأن يؤدى إلى مواجهة عسكرية، على الأقل هذا ما يقوله لنا المفاوضون، قالوا إن السلام ضرورة لأن الحرب بديله الوحيد، وعندما وقعت الحرب فى غزة جعلها بعضهم دليلا على صحة قوله إن من لا يسالم يلق من إسرائيل حربا.

فالآن يقولون إن السلام ما لم ينجح بعد سنتين فإنه لن ينجح، فمن حقنا أن نسألهم، إذا توصلتم لقناعة بعد سنتين أو بعد ثلاث أو بعد عشر، أن المفاوضات لن تعيد البلاد، فماذا أعددتم للحرب؟

فالضفة ليست مجهزة لمواجهة كهذه، بل إن أى تجهيزات إن وجدت فككت كجزء من سياسة الاندفاع نحو السلم المذكورة. والقائمون على الأمر فى الضفة موظفون دوليون معروفون بقدرتهم على الإدارة والتخطيط، فإن مرت السنتان أو الثلاث ولم يتوقف الاستيطان والقتل والفقر، فما عندهم؟ ربما يحسنون صنعا لو حفروا بعض الملاجئ المضادة للقنابل لحماية المدنيين على الأقل.

لا أريد من هذا المقال الهجوم على أحد ولكننى أسأل، ومن حقى أن أسأل، ماذا أعددتم لحمايتنا، تطلبون منا أن نطيع شرطى المرور فى شوارع رام الله وأن ندفع الضرائب، والناس يطيعون من يقدر أن يحميهم، بل هم لا يطيعونه إلا لأنه قادر أو على الأقل راغب أو يحاول أن يحميهم، وواجب كل قيادة أن تحمى شعبها، وأن تحتاط لما يمكن أن يكون.

فإذا كان الاستيطان والقتل مستمرين، وإذا كانت إسرائيل ترحل عشرة آلاف فلسطينى من الضفة الغربية، لا غزة، وإذا كنا نقول إن السلام إن لم ينجح فى سنتين فلن ينجح، وإذا كنا جمعنا سلاحنا ووضعنا من يحملونه فى الأحباس، ولم نحفر أنفاقا ولا ملاجئ، ولا دربنا أحدا يقاتل، فماذا لدينا لنضمن أن نكبة أخرى كنكبة عام ثمانية وأربعين لن تحصل؟ ضمانات أمريكية كتلك التى أخذناها فى بيروت؟ أم حسن نوايا إسرائيل كتلك التى نراها فى عيون شهداء الشهر الماضى الستة وتصريحات أفيجدور ليبرمان؟ إن صبرا وشاتيلا، ودير ياسين، وكل مذبحة عشناها فى الحرب والسلم تطلب الكلمة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved