مفارقات الحياة المقلوبة فى بلاد العرب

علي محمد فخرو
علي محمد فخرو

آخر تحديث: الخميس 18 مايو 2017 - 10:25 م بتوقيت القاهرة

بلاد العرب هى من أكثر بلدان العالم تعايشًا مع المتناقضات وقبولًا لأن تكون مجتمعاتها على شكل هرم مقلوب، يجلس على رأسه بدلًا من الاستقرار على قاعدته.
المفارقات تلطم وجه الإنسان العربى فى كل لحظة من حياته لتحيله إلى شخصية ثنائية التركيب الشعورى والذهنى والروحى. تفرض الحياة العامة على هذا الإنسان أن يتساكن فيه الغضب والدعة، الأمل واليأس، الفرح والحزن العميق، القول المبدع والفعل البائس.
نحن العرب نقرأ ونسمع شجب قادتنا السياسيين للتدخلات الخارجية الاستعمارية فى كل شأن من حياتنا، لكن ما أن يخرجوا من اجتماع مع مسئول كبير فى الدولة التى تتدخل بأقبح الصور فى شئوننا الداخلية وترفع أشنع مطالب الابتزاز المالى والعسكرى والسياسى، كما تفعل أمريكا، إلا ويشيدون بالصداقة التاريخية واتفاق الرؤى والأهداف السياسية الاستراتيجية، ويؤكدون ذلك من خلال المصافحات الحارة وتبادل القبلات على الخدود والابتسامات العريضة على الوجوه.
يسأل الإنسان العربى المشوش الذهن: هل أمريكا دولة عدو، إذ يشهد على ذلك انحيازها التام للكيان الصهيونى واحتلالها للعراق زورا وبهتانا وأدوارها الغامضة فى تدريب وتسليح وتمويل هذا الفصيل الجهادى التكفيرى الإرهابى أو ذاك، أو فى دعمها لهذه الحركة الانفصالية أو تلك، أم أن أمريكا دولة صديقة؟ وتزداد صراعاته النفسية إلى حد الجنون عندما يشاهد ولائم الأعراس والتفاخر تقام على شرف هذا المسئول الأميركى المتخصص فى الشتم والتهديد والابتزاز أو ذاك المتخصص فى الكذب وبيع السلاح.
من مفارقات أزمتنا التى تحيرنا أن يتكلم المستبدون عن إزاحة هذا الدكتاتور عن ذلك الشعب المظلوم فى مجتمعات الآخرين ويطالبون بحقوق الشعوب الديموقراطية بينما يمارسون القهر والاستئثار بكل السلطات.
***
من مفارقات الحياة الاقتصادية فى بلاد العرب أن يزداد أغنياء العرب غنى ورفاهية إلى حدود الفحش من خلال الانغماس فى الفساد المالى والتجارى والمضاربات فى أسعار متخيلة وهمية لأسهم الفقراء المديونين المرتهنين، بينما يزداد الفقراء فقرا وعوزا من خلال الانغماس فى أوهام الاستهلاك المظهرى والاعتقاد بأكاذيب ما ستأتى به الأسواق العولمية الحرة المدمرة لكل ما هو وطنى ومحلى، والتى تروجها أبواق أولئك الأغنياء الإعلانية. لقد وصلنا إلى حالة ما كتبه أحدهم على جدار أحد مدن أمريكا اللاتينية: «حاربوا الفقر والجوع، كلوا الفقراء».
من مفارقات أيامنا الحزينة الحالية أن أخبار القتلى والمشردين والمهجرين والمستباحة أعراضهم تتكلم أكثر وبصورة أوضح وأقوى من كل التعليقات والتحليلات السياسية وقصائد المديح فى الانتصارات الوهمية المغموسة بدماء الضحايا المدنيين الأبرياء، ودموع أطفال العرب الهائمين على وجوههم فى مخيمات الإذلال والعا، والتكفير عن الذنوب، وتسكين صرخات الضمير. ويا لمفارقة كلمات التعاطف والحب والرحمة لهذا الشعب المنهك أو ذاك التى تقابلها ممارسات القسوة والحروب العبثية وانتظار الحلول التى تأتى ولا تأتى، لتبتعد فى الأفق المجنون البعيد.
من مفارقات المشاهد العربى للتلفزيون والمستمع للإذاعات أن الآلة الإعلامية، التى تنادى ليل نهار بالوحدة الوطنية وبالأخوة الإسلامية والعروبية وبالتضامن الإنسانى، هى نفسها التى تصدح بأنغام الخلافات الفقهية الطائفية العبثية التى تخطاها الزمن، وبتأجيج الحزازات القبلية والقطرية، وبخلق أعداء وهميين مكان الأعداء الحقيقيين، وبالانشغال بما قاله هذا المعتوه السياسى أو ذاك بدلا من التركيز على تقديم الحلول ومداواة الجراح، وفى خضم كل ذلك الجدل يتم القضاء على جمال التنوع الإنسانى فى الأفكار والمشاعر الدينية، وعلى تنوع الثقافات الفرعية، ليحل محله الإصرار على وحدة مفروضة بلا طعم ولا لذة.
***
من أكثر المفارقات الحالية تشويشا أن يكثر النقد والتجريح للحركات العنفية المجنونة، بينما يتجاهل النقاد عنف الدولة فى هذا البلد العربى أو ذاك، فتحت شعار حق الدولة فى ممارسة العنف لحفظ النظام يتعايش البعض مع شتى الممارسات الأمنية غير الضرورية.
وفى أجواء هرج ومرج العنف المتبادل ينسى الكل بأن السماح بتفشى الفقر والجهل وغياب الديموقراطية والرأى العالم المراقب، هو العنف فى أتعس صوره. ولا يرى أصحاب الامتياز فى ممارس العنف إلا طبيعة منحرفة، تماما كما لا يرون فى الفقر إلا كسل الفقراء وقلة اجتهادهم وضعف عزائمهم.
وإذ نعيش مفارقات الحاضر لا ننسى مفارقات الماضى القريب التى تميزت بأن بعض الأنظمة العربية التى حملت شعار الوحدة العربية القومى العروبى كانت من أكثر من ساهم فى تقوية القطرية العربية ورفض أى تنازل عن السيادة الوطنية.
كل تلك المفارقات ساهمت فى بناء أم المفارقات: مجتمعات بدلًا من أن تدار من خلال حقوق عامة أصبحت تدار من خلال حكم فى صورة جمعية خيرية أبوية.
لن تنتهى مفارقات الحياة العربية المقلوبة إلا إذا أصبح هرم المجتمع العربى يجلس على قاعدته بدلا من سخرية الجلوس على رأسه.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved