ثورة الميدان.. فى مواجهة كلينتون.. تطمين جازم لإسرائيل.. فماذا عن العرب؟

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الأربعاء 18 يوليه 2012 - 8:45 ص بتوقيت القاهرة

تحت شعار «العمل معا فى لحظة تغيير تاريخية» جاءت وزيرة الخارجية الأمريكية إلى منطقتنا، والى دولتين تحديدا: مصر ما بعد ثورة الميدان وإنجاز الانتخابات الرئاسية فيها، للقاء رئيس الجمهورية الجديد، المدنى الأول والإخوانى الأول الذى يتسنم هذا المنصب الرفيع، الدكتور محمد مرسى... ثم إسرائيل التى عاشت قلقا واضحا وهى تتابع تداعيات الزلزال الشعبى الذى أطاح «عهد الطغيان» بقيادة الرئيس المخلوع حسنى مبارك.

 

فى خلفية ذهن الوزيرة كلينتون، التى جاءت إلى القاهرة فى الأيام الأولى لما بعد مبارك، ونزلت إلى «ميدان الثورة» فالتقت بعض جماعاته، كما سمعت ما يُطمئنها من قادة المجلس العسكرى، أن إدارتها صاحبة دور حاسم فى «التغيير الثورى»، وان «أمر اليوم» بتنحى مبارك قد صدر من واشنطن قبل أن يسقطه الميدان بالثورة... وان إدارتها، بالذات، هى من ضبط حركة المجلس العسكرى فجعلته يتخذ موقف الحُكم لا الحاكم مسفيدا من رصيد القوات المسلحة فى ضمير الشعب المصرى بحيث يضمن دوره الفعال فى «العهد الجديد» دون الحاجة إلى التورط فى انقلاب عسكرى قد يضطره إلى مواجهة غير ضرورية مع الميدان بقواه متعددة الاتجاه والولاء والهدف.

 

كانت السيدة كلينتون تعرف خريطة القوى السياسية فى مصر وحركة الصراع فيما بينها.. ولقد فتحت أبواب الإدارة الأمريكية، منذ زمن، أمام قياديى «حركة الإخوان المسلمين»، ومنهم الدكتور محمد مرسى، وان ظل الطابع الأمنى هو الغالب عليها. كذلك فإن هذه الإدارة تعرف حقيقة الوضع الاقتصادى فى مصر، بالتفاصيل المملة، وتعرف رجال الصفقات المشبوهة ورموز الفساد، من أركان عهدى أنور السادات ثم حسنى مبارك بالذات، وأبرزهم أولئك الذين عبدوا طرق التعاون ذات الاتجاه الواحد مع إسرائيل، ويسروا إمدادها بالنفط والغاز بأسعار «تشجيعية» لم تحظ بمثلها «دول شقيقة» مثل لبنان والأردن... وكان التبرير أن المهاودة فى الأسعار تؤكد التزام مصر العميق بموجبات معاهدة الصلح المنفرد المعقود مع دولة «العدو السابق»، حتى لو رأى فيها الخبراء «اتفاق إذعان» أكثر منها تثبيتا لعلاقات ندية بين دولتين سيدتين.

 

إذن، فقد جاءت السيدة كلينتون لكى تسمع من الرئيس محمد مرسى ما يؤكد مواصلة سياسة الصداقة والتعاون المفتوح مع واشنطن، التى كانت قائمة خلال «عهد الطغيان»، توكيدا لأن التغيير استهدف «شخص الرئيس» وليس سياساته بالمطلق، وبالتالى مواصلة الالتزام بموجبات معاهدة الصلح مع إسرائيل وهو الوجه التطبيقى المؤكد لاستمرار العلاقات المصرية ــ الأمريكية «مميزة» و«ثابتة» باعتبارها إحدى ضمانات الاستقرار فى المنطقة.

 

كانت السيدة كلينتون تريد أن تسمع من القاهرة ما يوفر شروط النجاح لزيارتها المكملة: إلى إسرائيل.

 

●●●

 

صحيح أن تصريحات الرئيس المصرى الجديد وإشاراته المتعددة التى تضمنتها خطبه فى «الميدان» ثم فى جامعة القاهرة، ثم فى قسَم اليمين أمام المحكمة الدستورية العليا، ثم خلال زيارته التى أراد أن تكون الأولى للسعودية، كانت قاطعة فى وضوحها بأن لا تغيير يُذكر فيما يتصل بالموقف من إسرائيل والمعاهدات معها، ولا إشارة لأى التزام جدى ومحدد تجاه القضايا العربية ذات الأهمية الاستثنائية (فلسطين مثلا...) ولكن من الأفضل أن يكون الحديث مباشرا وصريحا تماما ومحددا إلى أقصى حد، لكى تستطيع السيدة كلينتون أن تنقل الرسالة ــ الموقف إلى القادة الإسرائيليين بغير لبس أو إبهام، وبضمانة أمريكية مطلقة.

 

لا تختلف «السياسات العميقة» للعهد الجديد، إذن، عما كان معتمدا خلال «عهد الطغيان»: لا تغيير ولا تبديل بل ولا تفكير بأى تعديل فى التزامات معاهدة الصلح المنفرد مع إسرائيل، حتى لو كانت مجحفة بحق مصر، ولا تنطح لدور قيادى عربى، فالعروبة بدعة وكل بدعة ضلالة، أما فلسطين وشعبها وقضيتها المقدسة فلها قرارات مجلس الأمن الدولى واتفاق اوسلو ومندرجاته، مع هامش فى الخطاب الإنشائى حول حقوق شعبها بدولة له على أراضى 1967 عاصمتها القدس العربية (التى لم تعد موجودة).

 

لا يحب الرئيس الإكثار من التصريحات السياسية. لا بأس من لهجة المواعظ، وإذا استوجب الأمر تحديد موقف فيمكن اللجوء إلى آيات القرآن الكريم أو مقتطفات من بعض الحديث الشريف، وبعدها جمل مبهمة حمالة أوجه يمكن التنصل من أى فهم مغلوط لدلالاتها.

 

لكن الصور فضّاحة... ثم إن الأمريكيين يفضلون التعهدات الواضحة أو الملزمة.

 

●●●

 

وهكذا فلقد تبدى الرئيس الدكتور محمد مرسى متلهفا لفتح مظروف الرسالة التى حملتها إليه السيدة كلينتون من الرئيس الأمرىكى أوباما، وكاد يباشر فض الختم لو لا تدخل رجل «البروتوكول» للقيام بالواجب. ولقد اتسعت ابتسامته حتى غطت وجهه وهو يستمع إلى مضمونها الذى يشير إلى اطمئنان واشنطن إلى «حكمة الرئيس الجديد» والتزامه بنهج من سبقه فيما يتصل بالسياسات الدولية والإقليمية، وبالذات العلاقات مع إسرائيل.

 

بالمقابل كانت ابتسامات الوزيرة كلينتون تؤكد اطمئنانها إلى أن فعل التغيير الثورى الذى أنجزه «الميدان» لن يمتد إلى مراجعة السياسات التى اعتمدها النظام بعد حرب أكتوبر (العبور)، والتى أثمرت معاهدة الصلح المنفرد مع إسرائيل، بكل موجباتها، وبين أخطرها الحظر على الجيش المصرى أن يتواجد فى سيناء، تطمينا لإسرائيل، وهى التى استخدمت هذه الصحراء منصة للهجوم على مصر فى حرب 1967 ثم اتخذتها كقاعدة أمامية للهجوم المضاد فى حرب 1973.

 

نجحت السيدة كلينتون نجاحا مطلقا فى زيارتها ولقاءاتها فى القاهرة التى شملت إلى الرئيس الجديد المجلس العسكرى الأعلى برئيسه وأركانه ممن كانوا «على الخط» فى عملية «التنحى» بديلا من «الخلع» وفى ترتيب الانتقال السلمى للسلطة بما يحمى دور الجيش ولا يترك القرار للميدان وثواره منفردين.

 

ولقد تبدى نجاح زيارة السيدة كلينتون القاهرة ومباحثاتها فيها عبر تصريحات القادة الإسرائيليين الذين التقتهم فور وصولها إلى القدس المحتلة. كانت الابتسامات العريضة تغطى الوجوه: ليس فى القاهرة التى ستكون مشغولة بهمومها لسنوات، ما يقلق واشنطن أو تل أبيب.. وفعل التغيير الثورى الذى باشره «الميدان» لن يمتد إلى مراجعة السياسات التى اعتمدها نظام الطغيان، سواء مع واشنطن بالتحديد، والغرب عموما، أو تجاه إسرائيل والعلاقات معها على وجه الخصوص.

 

●●●

 

وبين المؤشرات على استمرار الثوابت فى السياسة المصرية على حالها أن تكون الزيارة الأولى للرئيس الجديد إلى السعودية، متجاوزا فيها حقيقة سقوط التعهدات التى قدمها مسئولون سعوديون إلى القاهرة بمساعدات عاجلة بالمليارات لتجاوز مصاعب المرحلة الانتقالية، وهى ثقيلة جدا.

 

أما على الصعيد الداخلى فبين نتائج زيارة السعودية تضييق الفجوة بين الإخوان والسلفيين، وتغليب التعاون على الصراع، فى مواجهة قوى الميدان الثورية وطموحها إلى التغيير الجذرى.

 

وطالما أن السعودية ومعها ذلك اللفيف من مشايخ الخليج قد اختاروا أن تكون إيران هى عدوهم الأول والأخطر والداهم ــ فيمكن للإسرائيليين أن يطمئنوا إلى هذا الحليف القوى بثرواته، والتى يتصدر ــ لحسابهم وبالنيابة عنهم ــ مواجهة الخطر الإسرائيلى على «قاعدة إسلامية»، بما يمكن من كشف القناع عن سياسة المزايدة التى يتبعها أصحاب شعار العداء لإسرائيل كشر مطلق، فى حين أنها لا تؤذى إلا «جيرانها العرب من أهل السنة»، سواء فى مصادر ثرواتهم (النفط والغاز) أو فى طموحاتهم السياسية إلى الدور القيادى فى هذه المنطقة ذات الأهمية الاستراتيجية الاستثنائية فى العالم.

 

إلى «إسلام الاعتدال»، إذن، تحت الرعاية الأمريكية، وهذا يطمئن إسرائيل، ويعجل فى إسقاط أنظمة الطغيان التى طالما نادت بالمقاومة والتحرير طويلا، ثم لم تفعل غير إذلال شعوبها وتجويعهم والتسبب فى عودة القوى الأجنبية إلى البلاد التى حكموها فأضعفوها حتى جاءت القوات الأجنبية فحررتها (العراق مثالا).

 

●●●

 

مع كل هذه التحفظات والمخاوف فإن «العرب الشوام» أو «عرب المشرق» يهربون من همومهم الثقيلة وقلقهم على «دولهم» فى كياناتها الموحدة حينا، وفى وجودها، حينا آخر إلى مصر حيث «الدولة».

 

وبالتأكيد فإن «العرب» يتابعون الصراع المحتدم على السلطة فى مصر، هذه الأيام، بشىء من القلق، وان كانوا معجبين بحيوية النقاش واتساع مداه وحيويته الممتازة وشموله مختلف المسائل والقضايا التى تشغل بال المصريين العائدين إلى الحياة بعد تغييب قسرى امتد بطول عهد الطغيان.

 

ومع ثقة «العرب الشوام» بوعى الشعب المصرى، إلا أنهم يستشعرون قدرا من القلق على الميدان وثورته التاريخية وغير المسبوقة، التى أطاحت نظام الطغيان فى فترة زمنية قصيرة وبأقل عدد من الضحايا والخسائر.

 

مصدر القلق الاضطراب السائد، سياسيا، والقلق الذى يتهدد مسار الثورة نتيجة الصراع «الحزبى» الذى فرضه الإخوان المسلمون، والذى يتبدى أحيانا فى صورة محاولات لاحتكار السلطة وفرض توجهات تشابه ما مارسه ويمارسه الحزب الواحد فى «دول «كثيرة ليست لها ظروف مصر وثبات دولتها، مما يدفع الصراع نحو مهاوى الحرب الأهلية.

 

إن مصر مستقرة ضرورة حيوية لأمتها العربية جميعا... فضلا عن ضرورتها لشعبها الذى ينتظر منذ عهد بعيد أن يحقق أمنيته فى دولة قوية وعادلة، تحمى كرامته، وعزة وطنه ومستقبل أمته.

 

والكفاح دوار... ومعه القلق.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved