بعض النسيان نعمة

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 18 أغسطس 2010 - 10:30 ص بتوقيت القاهرة

 يقال إن النساء بخاصة يجدن صعوبة فى أن يغفرن للآخرين أخطاءهم، والسبب هو أنهن متمردات على النسيان، والنتيجة هى أن أكثرية بين النساء أشد ميلا إلى التعاسة من أكثرية بين الرجال.

توجد مبالغة لا شك فيها والقائلون بهذا الكلام يعممون من حالات قليلة فالمرأة مثل الرجل غفورة ومثل الرجل قابلة للنسيان ولذلك فهى ليست بطبيعتها معرضة للتعاسة أكثر من الرجل. الصحيح على كل حال هو أن الفرد، رجلا كان أم امرأة، الذى تصيبه آفة عدم النسيان أو صعوبته، فرد محروم من متعة التجدد والإبداع ومن نعمة النسيان والغفران، فالنسيان نصف الطريق إلى الغفران والغفران أول الطريق إلى التسامح.

كثيرون يلاحظون أوجه شبه بين الإنترنت والحدود المفتوحة، بمعنى أن الإنترنت أتاح الفرصة للإنسان لاكتشاف مواهب فى شخصيته لم يكن يعرف أنها موجودة، وبفضل ما اكتشف استطاع تنويع هوياته وهواياته. وفى الوقت ذاته سمح لنفسه بأن يصبح «شخصا عاما» بسجل مفتوح يحتوى على دقائق ماضيه وخفايا حاضره. لم يدرك أنه باستخدامه الانترنت وبالمعلومات التى أدخلها بنفسه عن نفسه وبما أدخله الآخرون عنه خسر معركته مع النسيان.

لم يعرف حين استدرج إلى طرق الانترنت وحاراته أنه يفقد الحماية التى كان النسيان يوفرها له وبخاصة لماضيه. يقول ليكس تورك، المفوض الفرنسى لحماية المعلومات، إنه يجب النص فى الدساتير على حق الإنسان فى «النسيان»، ومنع اختراق الآخرين لمكنونات الفرد المنسية أو التى يريد أن يخيم عليها النسيان.

بمعنى آخر إن كانت رغبة الفرد فى إخفاء معلومة عن الناس أو إهمال مرحلة فى حياته ونسيانها تماما فليس من حق فرد آخر أن يزيح التراب عنها ويخرجها من عالم النسيان إلى عالم الإنترنت.


يشيد روزين كاتب مقال نشرته نيويورك تايمز بعنوان «الشبكة تعنى نهاية النسيان» بالكاتبين الأرجنتينيين اليخاندرو تورتولينى وإنريكى كواجليانو اللذين أطلقا حملة فى أمريكا اللاتينية تدعو إلى «إعادة اختراع النسيان»، عن طريق شحذ الهمم لتطوير طرق وتكنولوجيات يمكن بواسطتها «إخفاء المعلومات» التى تحتفظ بها الشبكة الإلكترونية.

فى الوقت نفسه أعلن الاتحاد الأوروبى عن نيته تمويل حملة عنوانها «فكر جيدا قبل أن تودع معلومة عنك فى الإنترنت»، وفى الولايات المتحدة تبحث جماعة من الفنيين والقانونيين وخبراء العالم الرقمى فى إمكانية تخليق نظام «النسيان الرقمى»، هذه المحاولات والجهود تهدف جميعا إلى استعادة سلطة الفرد على هوياته، وقدرته على تجديد نفسه، وحقه فى الهروب من ماضيه وتحسين صورته لدى الغير.

مايكل فيرتيك، شاب تخرج فى كلية الفنون فى جامعة هارفارد، انشغل بموضوع الإساءة الرهيبة التى يتعرض لها الشبان بعد التخرج أو عند الزواج نتيجة وجود بقع سوداء فى سير حياتهم لأفعال ارتكبوها فى مرحلة أو أخرى من مراحل المراهقة. أنشأ فيرتيك شركة باسم «الدفاع عن السمعة» واتسع نشاطها حتى صارت تغطى أكثر من 100 دولة.

ويستمر الاتساع مع زيادة عدد القضايا التى تمس خصوصيات ملايين الأشخاص من مستخدمى شبكتى الفيس بوك والتويتر وغيرهما. تقوم الشركة، لقاء رسم مادى معين يبدأ بعشر دولارات ويمكن أن يصل إلى عشرات الألوف، بالاتصال بالشبكة الإلكترونية وطلب «حذف» المواد المسيئة لزبائنها وتزويدها بمعلومات إيجابية عنهم. ويقول صاحب الشركة أن أكثر زبائنه من الآباء والأمهات الذين تطوع أو تهور أبناؤهم وبناتهم فسردوا قصص أهاليهم وسيرهم لتنشر على الشبكة، دون استئذانهم..

أما جوناثان زيتران Jonathan Zittrain فقد أنشأ شركة لخدمة الراغبين والراغبات فى معرفة كل المعلومات والتفاصيل عن شخص آخر يفكرون فى الارتباط به أو توظيفه وتجنيده. وتقوم الشركة مقابل رسم معين، بتجميع معلومات عن الشخص المطلوب التحرى عنه من نوع السجل الإجرامى ومواقع النشأة والتنشئة وشبكات الأصدقاء واتجاهاتهم وأوصافهم، وشعبيته ووضعه الاجتماعى والمادى والمبادئ والدرجات التى حصل عليها فى الجامعة والتزامه بالمواعيد وعلاقاته مع الجنس الآخر.

أغلب الناس لا يقلقهم ما يضيفه الآخرون على الشبكة عن سلوكياتهم وأنشطتهم بقدر ما تقلقهم المعلومات العتيقة عن شخصياتهم وتاريخهم وعن تصرفات مارسوها فى مرحلة أو أخرى تحت ضغط الظروف أو نتيجة أهواء شبابية.

والمعروف أنه لا توجد قوانين تحمى الفرد من معلومات منشورة على موقع عام على الشبكة أو فى غيرها. بعبارات أخرى لا توجد قوانين تحمى حق الإنسان فى أن ينسى ما يريد أن ينساه ويتذكر ما يريد أن يتذكره.

كتب خورخى لويس بورخيس، الكاتب الأرجنتينى الشهير فى إحدى قصصه القصيرة يصف شابا فقد القدرة على النسيان نتيجة حادث سيارة. أصبح يتمتع بذاكرة خارقة لا تفوتها تفاصيل كل صغيرة وكبيرة. هذا التركيز على التفصيل جعله عاجزا تماما عن ربط التفاصيل بعضها البعض وفاشلا فى تكوين «معرفة متكاملة» ومفتقرا إلى «الحكمة.»

النسيان يرتب المعلومات حسب أهميتها وصولا إلى المعرفة التى بدونها لا تتوافر الحكمة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved