اختطاف الأزمة بعد اختطاف الثورة

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الخميس 18 أغسطس 2011 - 9:20 ص بتوقيت القاهرة

 خطفوا ثورتنا. عبارة نطق بها أحد المتحمسين للثورة المصرية وكررها متحمس لثورة فى تونس ومتحمس آخر لثورة فى اليمن ورابع لثورة فى ليبيا. تذكرت العبارة وأنا أقرأ لبول كروجمان الكاتب الاقتصادى الأمريكى الحائز على جائزة نوبل مقالا يتحدث فيه عن «الأزمة المختطفة» ويقصد اختطاف كبار الأغنياء للأزمة الاقتصادية الرهيبة التى تجتاح أمريكا والغرب ليمنعوا إدخال إصلاحات فى النظام الاقتصادى القائم.

لا يخالجنى شك فى أن الثورة المصرية تتعرض هذه الأيام لعمليات اختطاف، وأكاد أكون واثقا من أن جماعات من الناس بدأت تنفذ عملية اختطاف أخرى لأزمة مصر الاقتصادية مستوحاة من العملية التى اكتشفها وكتب عنها بول كروجمان. يشاع أن نخبة من رجال الأعمال الذين نشطوا فى عهد مبارك وكونوا ثروات طائلة وكانوا من المناهضين لكل ما من شأنه زيادة الانفاق الحكومى على الخدمات الاجتماعية والصحية للطبقات التى تضررت نتيجة عقود من تجارب رأسمالية متوحشة، عادوا إلى الساحة السياسية مزودين بقوة دفع خارجية ليدخلوا فى مواجهة حاسمة مع قوى ثورية تطالب بإقامة نظام اقتصادى يوفر قدرا مناسبا من العدالة الاجتماعية ويقلص الفجوة فى الدخول ويستبعد الفساد.

تقع فى أمريكا تطورات أتصور أنها ستترك آثارا بعيدة المدى فى أمريكا والعالم الرأسمالى. سيأتى يوم نتذكر فيه أن هذه التطورات كانت تحدث أمام أعيننا بينما نحن غارقون فى خلافات بدائية. فقد جاء فى تقرير أعده ثلاثة من كبار المحللين الاقتصاديين فى مجموعة سيتى جروب وأشارت إليه مجلة أتلانتيك الأمريكية فى عدد سبتمبر القادم، إن الشعب الأمريكى أصبح يتكون من جماعتين متمايزتين كل عن الأخرى تمايزا واضحا وقاطعا، الأغنياء والآخرون. يقول التقرير إن جماعة الأغنياء نجحت فى أن تستولى فى ظل النظام الرأسمالى الديمقراطى على السلطة والثروة معا، بعد أن أصبحت ثروة 1٪ من سكان أمريكا تعادل 90٪ من مجموع ثروات الآخرين، وهم 99% من سكان أمريكا.. هذه القلة بالغة الثراء استغلت تعقيدات اقتصاد العولمة وتحولاته المتسارعة وحاجته المتزايدة إلى خبراء على درجة عالية من التعليم والكفاءة لتضاعف ثرواتها على حساب الغالبية العظمى من الشعب الأمريكى.

كما تشير دراسة أعدها آتكينسون الاستاذ فى جامعة اكسفورد إلى أن الأغنياء فى المجتمعات الرأسمالية زادت دخولهم بينما فقدت الطبقة الوسطى نسبة غير بسيطة من دخولها الحقيقية. ويشرح ذلك بأن الأزمات الاقتصادية التى تتوالى فى المجتمعات الرأسمالية كانت بالنسبة للأغنياء فرصا لزيادة ثرواتهم. وهو ما حدث فى آسيا وشمال أوروبا فى التسعينيات عندما كان الأغنياء يشترون من الفقراء ممتلكاتهم وأوراقهم المالية التى كانوا يعرضونها بأثمان زهيدة ليسددوا ديونهم والتزاماتهم، وعندما تنتهى الأزمة يخرج الأغنياء اكثر ثراء وتخرج الطبقة الوسطى والفقراء أشد فقرا. حدث هذا مرة أخرى بعد الأزمة المالية فى عام 2008، ويقول آلان بايندر إنه فى كل مرة اختطفت نخبة الأغنياء فرصة أزمة اقتصادية خربت المدن الكبرى وفسدت المرافق العامة وفقد العمال وظائفهم إلى غير رجعة.

يعتقد اى اس ديون الكاتب فى صحيفة واشنطن بوست أن التاريخ لن ينسى الأسبوع الأول من شهر أغسطس عام 2011، فهو الأسبوع الذى كان وسيبقى اللحظة «الأشد رعونة وهدرا وخجلا فى التاريخ الاقتصادى الأمريكى»، حين وقع الرئيس الأمريكى أوباما صفقة مع الحزب الجمهورى هدفها المعلن تعلية سقف ديون الحكومة الأمريكية تفاديا لإعلان إفلاسها، وهى الصفقة التى أضاعت فرصة انقاذ الرأسمالية الأمريكية، وكانت فى الوقت نفسه فرصة لأغنياء الحزب الجمهورى لاختطاف الأزمة الاقتصادية الأمريكية. أما الكاتب فى صحيفة الجارديان البريطانية جورج مونبيوت فيصف ما حدث بأنه انقلاب دبرته نخبة البليونيرات لتمنع أوباما من إدخال إصلاحات اجتماعية وتبقى الأوضاع على ما هى عليه. من ناحية أخرى كتب البليونير المتمرد بافيت مقالا طالب فيه الحكومة بالتوقف عن تدليل أصحاب البلايين.

أحوال أوروبا لا تختلف جذريا عن أحوال أمريكا، فالبطالة عالية والاقتصاد يتخبط والتطرف الايديولوجى يمسك بخناق بعض دولها ونخبتها الحاكمة تتصرف تصرفات تفتقر إلى الحكمة والرشد.. هذه الأحوال صاحبت مرحلة انحدار أوروبا إلى الشيخوخة، وهى نفسها التى تصاحب الآن انتقال أمريكا إلى خريف عمرها.

فى بلادنا جرت وتجرى محاولات لاختطاف أزمة الاقتصاد المصرى من قبضة الثورة وشعاراتها وتكثفت فى ظل عمليات اختطافها هى ذاتها. لا تريد نخبة الأغنياء شديدى الثراء أن تصل أفكار الثورة إلى النظام الاقتصادى القائم فتتزايد مطالب تثويره على أسس العدالة الاجتماعية وتشغيل جميع القوى المنتجة فى المجتمع وتدشين ثورة تعليمية وتكنولوجية حقيقية.

تريد النخبة الأكثر ثراء أن تنتهز الحكومة فرصة الأزمة لتعمل بسرعة وحزم على دعم مصالح طبقة الأغنياء وزيادتها على حساب مصالح الغالبية العظمى من أبناء الطبقات الوسطى والأشد فقرا.

هكذا تختطف الأزمات كما تختطف الثورات.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved