تركيا أردوغان وسلوكها الإمبراطورى.. إحياء الصراع المذهبى لتغطية المطامع

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الثلاثاء 18 أكتوبر 2016 - 9:00 م بتوقيت القاهرة

تشهد العلاقات العربية ــ التركية فى الأعوام الأخيرة توترا يزيد من حدته النبرة الإمبراطورية فى كلام الرئيس التركى رجب طيب اردوغان.

فى البدء تدهورت العلاقات بين مصر وتركيا نتيجة الموقف الفاضح فى انحيازه إلى حكم الإخوان المسلمين خلال الفترة القصيرة التى تمكنوا فيها من الوصول إلى السلطة فى مصر فى العام 2012... وهى لا تزال حتى اليوم متوترة، وما زالت أنقرة تستضيف عددا من قيادات تنظيم الإخوان وتجاهر بدعمهم، برغم ما أظهره الشعب المصــــرى مــــن رفــض لــحكم «الجماعة» الذى ثبت افتقاره إلى القبول الشعبى، ولا تزال العلاقات بين القاهرة وأنقرة مجمدة عند أسوأ الحدود.

بعد ذلك توترت العلاقات بين تركيا وسوريا التى كانت قد وصلت مع رئاسة بشار الأسد إلى ذروة التعاون، سياسيا واقتصاديا، بحيث سحبت من التداول الأزمة الصامتة والمفتوحة منذ العام 1938 عندما اقتطع الانتداب الفرنــسى «القضــاء السليب» أى كيليكيا واسكندرون من أرض ســـوريا و«منحه» إلى تركيا لتحييدها، بل اكتسابها إلى جانب الحلفاء فى الحرب العالمية الثانية... وكانت هذه العلاقات قد شهدت فى السنوات الأخيرة لحكم الرئيس حافظ الأسد توترا خطيرا بلغ حافة الحرب نتيجة اتهام سوريا بدعم انتفاضة الأكراد ضد أنقرة.. ثمّ سويت الأزمة بالطــلب إلى الزعيــــم الكردى عبدالله أوجلان الذى كان يدعو إلى الكفاح المسلح طلبا لاستقلال الأكراد فى تركيا عن حكم أنقرة، أن يغادر.. فغادر إلى بعض أنحاء أفريقيا حيث استطاعت المخابرات التركية اختطافه والإتيان به إلى أنــقرة حيث حُوكم وحُكم بالإعدام، وما زال فــى الســجن، حتــى اليــوم، لاســتخدامــه كمفــاوض ــ رهينة ــ من أجل تسوية أزمة العلاقات المتوترة بين أنقرة والأكراد.

***

لذلك كان الانقلاب فى الموقف التركى من سوريا مفاجئا، خصوصا وقد تزامن مع تفجر حركة الاعتراض فى درعا وأنحاء أخرى فيها، إذ تجاوز الاتفاق السياسى بمضامينه الاقتصادية التى كانت فى مصلحة تركيا حدود المصالح السورية.. لكن القيادة فى دمشق ظلت تدافع عن تقربها من أنقرة باعتباره «تحولا لخيرها وتطورا استراتيجيا يعادل فى مردوده المعنوى القرار بمباشرة الحرب ضد العدو الإسرائيلى فــى السادس من تشرين الأول (أكتوبر) 1973».. على حد تعبير مسئول سورى كبير، ذات يوم.

ومع تطور الأحداث الدموية فى سوريا كان التدخل التركى يتزايد ويتطور فى دعم قوى المعارضة واحتضانها سياسيا مع تزكية مباشرة لدور الإخوان المــسلمين فيها، ثمّ تشجيع بعض «الفصائل» على حمل السلاح، وتدريب مقاتليها وتسليحهم ومساعدتهم ميدانيا فى مواجهة الجيش السورى وحلفائــه.. بل إنــــها قــد اصــطنعت «فصائل» مقاتلة من التركمان وأقليات أخرى فيها، وفتحت أمامهم المعابر، وأمنت لهم القواعد الخلفية وتوفير الذخيرة والوقود والغذاء. وغدت اسطنبول «مقرا» لقيادات المعارضة قبل أن تتقدم الدوحة لتشاركها مهمة الدعم والإمداد وتوفير مختلف أنواع التسهيلات... ثمّ لحقت بها الرياض، فى حين كانت قيادة الحكم فى دولة الإمارات تندفع لتوثيق علاقاتها مع حكومة أنقرة، متجاوزة ما كان بين«أبناء الشيخ زايد» والرئيس السورى بشار الأسد من صداقة وود يعززها أنهم جميعا من «جيل القادة الشباب».

هكذا انتظمت دول عدة فى جبهة معادية للنظام السورى، وقد اجتهدت فى استخدام المذهبية للتغطية على حقيقة موقفها السياسى، فى استعادة لبعض الصفحات الدموية فى التاريخ الإسلامى الحافل بالانشقاقات والصدامات الــسياسية بغــطاء مذهبى.

***

الجديد والنافر فى سلوك القيادة التركية مؤخرا إصرارها على أن يكون لها دور فى معركة تحرير الموصل فى العراق، وبذريعة مذهبية معلنة تُنصب أنقرة مرجعية لأهل السنة حيثما تواجدوا...
ولقد دخل هذه المعركة الرئيس التركى رجب طيب اردوغان شخصيا، فرفض طلب السلطات العراقية سحب كتيبة من الجيش التركى دخلت شــمال العراق، قبل حين، بذريعة تدريب قوات البشــماركة الكرديــة، مقــررا أنــه يتوجــب أن يــكون «للسنة» ممثلون بتركيا دور فى تحرير هذه المدينة «السنية» وهى العاصمة الثانية للعراق، متذرعا بأن له الحق بالتدخل فى الشأن العراقى مساندا «أهل السنة» تماما كما إيران التــى تساند «الشيعة» فيه.

ومن أجل تدعيم هذا التوجه المذهبى الذى من شأنه إخراج الحرب فى سوريا وعليها من طبيعتها السياسية وتحويلها إلى مشروع حرب طائفية فى المنطقة ظهر إلى العلن مشروع تحالف بين تركيا اردوغان والسعودية وقطر والإمارات.. سرعان ما أعلن دعمه للمعارضة السورية المسلحة، مما أدى إلى إفشال مشروع الهدنة على جبهات الحرب فى سوريا.
هكذا تتم تغطية المطامع السياسية بالمذهبية، فى استعادة غير مبررة لصفحات سوداء من التاريخ الإسلامى، لا تزال قابلة للاستثمار.

فليس من خدمة للعدو الإسرائيلى أخطر من النفخ فى نار المذهبية وإعادة إحياء مآسى الصراع بين السنة والشيعة التى يفترض أن تكون قد استقرت فى بطــون التاريخ، خصوصا فى ظل انبثاق الوطنيــات بــعد دهر القــهر العثمــــانى وتـــــبلور «العروبة» كمشروع سياسى جامع للعرب فى مختلف أقطارهم بروابط الجغرافيا والتاريخ والدين (ولو تعددت مذاهبه، كإرث من الماضى وليس كصيغة للحكم فى الحاضر والمستقبل).

***

فى أى حال، نحن الآن أمام تركيا جديدة، ورئيسها الذى يعامل نفسه وكأنه خليفة المسلمين ويحلم باستعادة أمجاد «السلطنة العثمانية»، يعادى مصر ويقاتل فى سوريا ويحتل مناطق من العراق ويعلن أنه «شريك» فى معركة الموصل حتى لو رفضت الحكومة العراقية، ويتذرع بالوجود الإيرانى فى العراق ليطالب بحقه فى حماية «السنة»... ويندفع فى اتجاه روسيا بعد الاختلال الذى طرأ على علاقة التحالف المكين مع الولايات المتحدة الأمريكية وتطلع تركيا إلى الانتساب إلى الاتحاد الأوروبى، وهو مطلب عزيز المنال كما تدل مواقف الدول الأوروبية.. فيكون الرد التركى اتهام هذه الدول بالتعصب الطائفى، وربما العرقى أيضا.

وبديهى أن تثير هذه الممارســات المتناقضــــة إشــكــالات عـــديـــدة «للــسلطان» الجديد، لا يكفى لتغطيتها تحالف طارئ مع بعض الأنظمة العربية النفطية فى مواجهة سوريا بالمشاركة فى الحرب عليها، سواء تم تمويه هذه الحرب بالاعتراض على ممارسات النظام فيها (بينما حلفاؤه من العرب ملوكا وأمراء ومشايخ لم يتعرفوا إلى الديمقراطية، ولا هم فى وارد اعتمادها أساسا لأنظمتهم القبلية التى تحتكر الثروة والسلاح والسياسة. كما أنها لا تبرر هذا المسلك «الاستعمارى» فى العراق، بذريعة المشاركة فى عملية تحرير الموصل بذريعة أنها «مدينة سنية»، وكأن تركيا القرن الحادى والعشرين، وذات النظام العلمانى (وإن كان الحكم راهنا إخوانى الشعار والممارسة) هى هى سلطنة بنى عثمان والعصر عصرها..


وطالما استمرت الأنظمة العربية بعيدة عن شعوبها وغريبة عن عصرها، فمن البديهى أن تتسابق الدول (كبراها والمتوسطة) إلى استرهانها.. وسلوك تركيا اردوغان يصب فى هذا النهر.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved