الخبز الأسود

عمرو حمزاوي
عمرو حمزاوي

آخر تحديث: السبت 18 نوفمبر 2017 - 8:35 م بتوقيت القاهرة

استيقظت من نومها، لتجده قد أعد القهوة وجلس على الطاولة الصغيرة وبين يديه الصحيفة الأسبوعية التى اعتاد على قراءة بعض مقالاتها صباح السبت. كانا يعيشان فى شقة صغيرة بها غرفة واحدة، وحمام واحد، ومطبخ له نافذة عريضة تطل على حوش داخلى تزينه أشجار البلوط ولا تقترب منه الشمس أبدا. أسفل النافذة، أخذت الطاولة الصغيرة ومقاعدها الخشبية مواقعها الدائمة. قبل أن تجلس إليه، ضغطت على زر تشغيل جهاز الراديو الصغير المضبوط مؤشره باستمرار على موجة برنامج موسيقى الجاز.

ــ هل يمكن أن نذهب لزيارة جدتك اليوم؟ جاءت كلماته الأولى حاملة لطلب لم تتوقعه.

عندما التقى والدتها ووالدها فى عطلة أعياد الميلاد الماضية، تعرّف على جدتها لأمها. سيدة ثمانينية، تعيش فى دار للمسنين ليست ببعيدة عن منزل الأم، تتناوب الأم وهى على زيارتها فى الدار بمعدل زيارة واحدة فى الأسبوع، تظهر فى أعياد الميلاد وبعض المناسبات الأخرى فى منزل الأم لبضع ساعات تعاد بعدها إلى الدار. سألته عن سبب الطلب، فقال إن الكلمات القليلة التى تبادلها مع الجدة أشعرته بلطفها وأن الدارجة الشرقية التى تتحدث بها الألمانية محببة إلى قلبه وأن لديه رغبة حقيقية فى التعرف عليها والحديث معها بمفرده.
«أنت رجل غريب. تعرف، لم يهتم صديق لى من قبلك بأحوال جدتى ولم يرغب أحد فى زيارتها قط. حكيت لهم، مثلما حكيت لك، أن بخلاف جدتى لأمى مات من أنا حفيدتهم خلال السنوات الماضية. وكان انتحار جدتى لأبى بعد صراع طويل مع المرض حادثة مأساوية، لم أتوقف عن إلقاء اللوم بشأنه على أبى وأمى وعلى أنا أيضا لإهمالنا للسيدة المسنة وانشغالنا بيوميات العمل والدراسة. ومع ذلك، لم يطلب منى صديق من قبلك أن نذهب لزيارة جدتى. بل إن أمى، وهى ابنتها الوحيدة، تتهرب أحيانا من زيارتها متذرعة بمسئوليات العمل والمنزل وتكتفى باتصال هاتفى مع الممرضة التى ترعاها فى دار المسنين».
دخلت هى إلى غرفة جدتها أولا. وجدتها نائمة، فجلست على طرف سريرها فى هدوء. كانت تعلم أن جدتها تغفو لفترات قصيرة خلال ساعات النهار، وتستفيق منها بوعى متأهب وذهن حاضر. دوما ما أعجبت بقدرة السيدة الثمانينية على الاحتفاظ بذاكرة متقدة وحيوية عقلية بالرغم من متاعبها الصحية الكثيرة وحياتها فى دار المسنين بعيدا عن الابنة والحفيدة. لمحت زرقة عينيها، فحيتها ودنت منها مقبلة لجبهتها. أخبرت الجدة أن صديقها قد جاء معه، بل إنه هو الذى دفعها إلى الحضور للزيارة لرغبته فى التعرف عليها والحديث معها إن لم يكن بذلك إثقال عليها. فتحت باب الغرفة ودعت صديقها إلى الدخول، بعد أن كانت قد ساعدت جدتها على مغادرة السرير وتغيير ملابسها والتصفيف السريع لشعرها. رحبت به، سائلة مجددا عن اسمه. شكرته على الحلوى التى أحضرها معه، وتمنت على حفيدتها أن تعد له فنجانا من القهوة ولها كوبا من الشاى الأخضر قبل أن تغادرهما.
«أشكرك لإحضارك حفيدتى اليوم. لم أتوقع زيارتها، فالسبت ليس موعدها. وأشكرك أيضا على الحضور. ابنتى قالت لى إنك من مصر، أليس كذلك؟» أفادها بالإيجاب، وسرد لها تفاصيل قدومه إلى برلين للدراسة ثم استقراره بها للعمل وارتباطه بحفيدتها. سألته عما إذا كان يعانى من الغربة بعيدا عن وطنه أم اعتاد على الحياة فى ألمانيا، وحين قال لها إن اعتياد الحياة بعيدا عن موطنه لم يقلل أبدا من المعاناة من الغربة.. عاجلته بسؤال آخر عن مدى تواصله مع أهله فى مصر. حكى لها عن وفاة والده وارتباطه القوى بوالدته وحبه لإخوته، أوقفه اهتزاز كوب الشاى بين يديها عن الاسترسال.

«قدرتى على السيطرة على أطرافى وعلى جسدى تتراجع يوميا. أحاول عدم الاستسلام، وأقاوم الاعتماد الكامل على الممرضة الطيبة التى ترعانى. فعقلى يعمل بصورة جيدة للغاية ولم يتوقف بعد عن إصدار الأوامر الصحيحة للأطراف وللجسد، هكذا يقول الأطباء ويطلبون منى ألا أجزع حين يهتز كوب الشاى. أيا ما كان الأمر، لعلك لا تعلم أن ثمة أمرا آخر يجمع بيننا غير حفيدتى. فأنا أيضا عانيت من الغربة، ولسنوات طويلة لم يغب عنى حلم العودة إلى موطنى الأصلى».

روت له صديقته أن عائلة جدتها لأمها هجرت من مدينة كونيجسبرج (كاليننجراد حاليا) ما إن انتهت الحرب العالمية الثانية بهزيمة ألمانيا ووزعت أراضى ما كان يعرف ببروسيا الشرقية بين الاتحاد السوفييتى السابق وبولندا. هجرت العائلة وسط موجة عاتية من التهجير الانتقامى فى ١٩٤٥ طالت أكثر من ١٢ مليون ألمانى، ألقى بهم جميعا على أعتاب ما تبقى من ألمانيا التى كانت الحرب قد دمرت بناها ومرافقها الأساسية. وكان اختيار عائلة جدتها لأمها هو البقاء فى برلين، وكان نصبيهم أن أقارب لهم من سكان الشق الغربى من المدينة قبلوا استضافتهم فمكثوا معهم وصاروا بعد سنوات من مواطنى ألمانيا الغربية ومن المتمتعين بتقدمها. تظاهر بعدم المعرفة وتساءل باهتمام عن التفاصيل، فهو قد جاء لكى يستمع إليها.

«طردنا الجيش الأحمر من كونيجسبرج، مدينتنا التى ولد بها أبى وولدت بها أمى وعاشا بها قبل أن يتزوجا ويأتيا إلى الدنيا بخمسة أطفال. كنت أكبر إخوتى وكان عمرى حينها ١٥ عاما. حارب أبى فى صفوف الجيش الألمانى، لا أعلم إذا كان تورط شخصيا فى المذابح التى ارتكبها النازيون أم لا، غير أنه كان جيشا من القتلة. عاد أبى إلى المدينة قبل أيام من انتحار هتلر واستسلام ألمانيا، متوهما استطاعتنا البقاء فى منزلنا والحياة كمدنيين تحت الإدارة السوفيتية. إلا أن ضباط وجنود الجيش الأحمر أرادوا الانتقام من الألمان الذين ارتكبوا فى بلادهم مذابح وفظائع كثيرة، الانتقام من كل الألمان لا فارق بين عسكريين ومدنيين. تزايدت جرائم اغتصاب النساء والأطفال وقتل الرجال فى السجون ومعسكرات الاعتقال التى ورثها الجيش الأحمر عن النازيين، وهربت بعض العائلات أملا فى النجاة ممن كنا نسميهم رعاع القوقاز. لم يرد أبى الرحيل طوعا، غير أنه اضطر إليه بعد أن أحرق منزلنا».

صارحته بأن مشاهد وأصوات أيام التهجير لم تغب أبدا عن ذاكرتها؛ فزع أمها وحديثها المستمر عن عنف واعتداءات الجيش الأحمر، صمت الأب الدائم وسيره البطيء، الخبز الأسود الذى اقتاتوا عليه ومخيمات اللاجئين الموحشة التى كانوا يبيتون بها والبرد القاسى الذى كان ينخر فى عظامهم. بكت فى صمت بعد أن حدثته عن أختها الرضيعة التى لم تتحمل مشاق المسار الطويل من كونيجسبرج إلى برلين، وماتت بالقرب من مدينة جدانسك البولندية ووارتها الأم الثرى فى حفرة صغيرة بعد أن كفنتها فى معطفها الطويل.
طال الصمت، وقطعته هى بسؤال له عما إذا كان يتذوق الموسيقى الكلاسيكية. نهضت من مقعدها لتشغيل جهاز الموسيقى بغرفتها، ثم عادت إلى مجلسهما بسؤال آخر عن مجال عمله. ابتسمت قائلة «لا خير فى السياسة، فلماذا تدرسها؟ أبى لم يكف أبدا عن الحديث فى شئونها. فى برلين بعد التهجير، حصل على وظيفة كعامل فى مصنع للأدوية وشارك فى الحركة النقابية وانضم إلى الشيوعيين قبل أن يقرر إنهاء حياته فى ١٩٥١. نعم، انتحر أبى فى محل عمله بإطلاق رصاصة على رأسه وترك لأمى ولنا رسالة قصيرة كتب بها أنه يحبنا ويكره أن يتركنا غير أن صور قتلى وجرحى الحرب وأنَّات أختى الرضيعة قبل موتها التى تعبث برأسه يوميا أفقدته القدرة على مواصلة الحياة. مسكين أبى، لم تتح له فى نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات فرصة الحصول على العلاج النفسى الذى أنقذ أمى وأنقذنى أنا أيضا من هاوية الانتحار».

غفت قليلا على مقعدها، وسكن هو تماما لكيلا يزعجها. مرت دقائق، تأمل فيها جمال ملامح وجهها ونظر طويلا إلى أصابع يديها التى لم يذهب الزمن برونقها. كان يعرف أنها درست الموسيقى، وتخصصت فى آلة الكمان، وتنقلت مهنيا بين العمل لسنوات قليلة كعازفة فى الأوركسترا السيمفونى لمدينة برلين وبين سنوات طويلة من تدريس العزف على الكمان فى المعاهد الموسيقية الخاصة المنتشرة فى أحياء المدينة. كانت صديقته تردد كثيرا أن «كمان جدتها» هو الذى أخرج العائلة من فقر ما بعد الحرب العالمية الثانية، ومكن الجدة من أن تضمن لابنتها حياة بها قدر من الرفاهية. فجد صديقته لأمها كان يعمل فى مصنع لإنتاج الأدوات الكهربائية، وكان مدمنا للخمر ينفق عليه كل ماله. الجدة الغافية أمامه الآن هى التى وفرت الحياة الآمنة لأم صديقته وساعدتها على استكمال دراستها وصولا إلى إنهاء الدراسة الجامعية للحقوق ومن ثم العمل كمحامية، السيدة الثمانينية الغافية أمامه الآن لم تتوقف عن تدريس الكمان إلا حين تخطت سنين عمرها منتصف العقد السابع ومازالت إلى اليوم تمارس العزف على آلتها المحببة لشيء من الوقت.

استفاقت من غفوتها، وجهت إليه نظرة بها من الحيرة ما بها من الارتياح لوجود شخص ما بجوارها. فوجئت به يقبل يديها، والدموع تنساب على وجنتيه، وكلمات اعتذار تصدر عنه لكونه أرهقها بسؤاله عن الماضى. سألته عن سبب بكائه، فقال تذكرت جدتى لأمى التى كنت أحبها كثيرا، ماتت قبل سنوات قليلة ولم أتمكن من وداعها. قالت «تحدث معها كلما خطرت على بالك، فالأموات حتما يسمعوننا. لم أتوقف عن الحديث مع أمى يوما واحدا منذ رحيلها».

صمتت مجددا، همَّ بالاستئذان فى الانصراف بعد أن شكرها على وقتها وحديثها معه. قبل أن ينصرف طلبت منه أن يحضر لها آلة الكمان من داخل الخزانة الصغيرة خلف مقعدها وقطعة صغيرة من رقائق الخبز الأسود الموضوع بجوار سريرها. تناولت قطعة الخبز، أمسكت بالكمان بيد ابتعد عنها الارتعاش، مالت برأسها جانبا لكى تضبط وضع الآلة وتتهيأ هى للعزف، ودَّعته بابتسامة من تتعجل لقاء شريك الحياة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved