عن البرد وأشياء أخرى

خولة مطر
خولة مطر

آخر تحديث: الإثنين 19 يناير 2015 - 8:45 ص بتوقيت القاهرة

يقف عند حافة الرصيف وهو على حافة الحياة رغم سنواته المعدودة، ربما يتسول أو يحاول مداراة ضعفه بحمل حزم من الورد أو بضع علب محارم ورقية أو حتى فقط قطعة قماش بالية يراد بها مسح زجاج سيارتك الفاخرة.. ينظر للمختبئين فى دفء عربتهم الحديثة ومعاطفهم من الفرو الخالص وهو لا يعرف لماذا يصر الأغنياء راكبوا العربات المسرعة شديدة اللمعان أن يرتدوا فرو الحيوانات، لا يعرف البرد إلا من يكابده كالحب رغم أن البلاد العربية بأجمعها صرخت، خلال الأسابيع القليلة الماضية، من شدة موجة البرد التى أتت بكثير من الخير أحيانا وكثير من التراب عند ذيل الوطن!

تتلون الأشجار أو تتخلص من أوراقها.. تتعرى أحيانا أو ترتدى أجمل ما عندها من الأخضر بدرجاته أو حتى عند الخريف تصفر حتى لون النار، ثم تسقط لتغطى الارض الطيبة.. فى تغير الفصول جمال خاص وموسم يحتفى به فى كل العالم رغم هوس البعض بالربيع وكأنه أجمل الفصول جميعها حتى سمى البعض ثوراتهم بالربيع وشبههوا به.. ذاك الفصل حامل الخيرات ومبشر بالحب ومواسم الحصاد والعطاء..

•••

لتغير وتحول الفصول طقوس خاصة وكلها لا يمكن إلا أن تأتى بشيء من البهجة وفيما تَغنّى الكثيرون بالربيع فقط فلم يقل أحد «ادى الشتاء عاد من تانى» !!! إلا أنها جميعا تعانى تلاوين الكون وولادة الأرض الحبلى بالخير وارتواءها وارتعاشات الجسد أو استرخائه فى شمس الشتاء الدافئة.. فى مختلف بقاع الكون لا يرتبط تحول الفصول إلا بالفرح رغم انه عندنا يعنى فى الكثير من الاحيان شيء من الخوف أو كثير من العذاب..

وحدهم الفقراء يبقون ضحايا الفصول الأربعة فلا بيت آمنا يقيهم شدة برد الشتاء وتسلل أمطاره إلى غرفهم المعتمة شديدة الرطوبة أصلا، ولا الصيف بقيظه وشمسه الحارقة ببعيد عنهم.. هم من يعملون تحت درجات الحرارة غير الآدمية لساعات عمل تطول وتمتد مع بقاء الشمس فى كبد السماء.. ولا يذوقون طعم كرز ومشمس وعنب الفصول المتنوعة فهى الأخرى حكرا على الباقين فوق الكون مرتدى معاطف فرو الثعلب الخالص رغم صراخ جماعات الدفاع عن حقوق الحيوان.. نعم للحيوانات هناك حق. أما هنا فلا حق للفقير سوى الموت بين شهيق وزفير والبحث عن شبر أرض يوارى فيه.

تهبط درجات الحرارة فى منطقة لا تعرف سوى المناخ المعتدل أو الحار جدا.. يحل الشتاء والبرد القارص يختبئ الناس بحثا عن مساحة من الدفء ويبقى آخرون فريسة سهلة له.. كلما اشتد يحتفلون به هناك كثيرا يحبون المطر لأنه لا يعنى الغرق فى «شبر ميّه» ويعشقون الشتاء لأنه العطاء بمائه الذى يروى الأرض العطشى.. جاءت العاصفة فأطلق عليها تسميات عدة كلها توحى بالعطاء، فيما تنقل الجرائد يوميا فى ذيل صفحاتها صور لفتاة صغيرة ماتت فى مخيم للاجئين السوريين وأطفال غزة وكل فلسطين يرسمون خارطة بلادهم بالثلج ثم يبحثون عن نار اشعلوها ببقايا بيوتهم التى دكّتها طائرات المحتل.. وطفل آخر فى المناطق الأكثر فقرا تجمد من كثرة المطر والثلج والبرد وقلة كل أنواع الدفء وأولها الدفء الآدمى!!

•••

كم عدد أولئك الذين ماتوا من شدة البرد أو الحر لا أحد يعرف.. لا أحد يهتم.. فهنا حيث نحن، يصبح الانسان وخاصة الفقير مجرد رقم ضمن الإحصائيات السكانية وفى الكثير من الأحيان يعد هو السبب فى كوارث هذه الأوطان ناقصة النمو والتنمية.. يسقط الكثيرون فلا يعرف بهم أحد ولا يكترث لهم أحد سوى ربما عند الأحاديث ما بين بين حين يلوى أحدهم شفته ويعيد تكرار قصة الموت غير المعلن لأطفال وفقراء الوطن وينهيها وهو يأخذ رشفة أخرى من سيجاره الكوبى بأنه قد اشترى كمية من البطانيات الصينية لتوزيعها على الفقراء فما يريدون أكثر من هكذا تعاطفا وترابط ومحبة؟! فى كل بداية لعاصفة فضيحة لكم أصبح أثرياء هذه الاوطان قلة، كم هم معزولون فى فقاعاتهم وكم هم بعيدون عن الكثرة الباقية فى آخر السلم تلك التى تقدم أطفالها قرابين لكل عاصفة ثلجية ومطرية ورعدية وموجة حر قاتلة؟!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved