دول المشرق العربى فى عين الخطر

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الأربعاء 19 أغسطس 2015 - 10:20 ص بتوقيت القاهرة

يعيش أهل المشرق العربى، تحت وطأة هموم مصيرية تتصل بمستقبلهم فى بلادهم، وبالتحديد كياناتها السياسية: «هل تصمد «دولهم» لما تتعرض له من تمزيق لخرائطها بين «النظام» الذى ما زال قائما ولكنه فى حالة عجز عن حفظ «الدولة» وبين المعارضات المختلفة التى تتباين مشروعاتها إلى حد التضاد، ويصل ببعضها الهوس أو الاغتراب عن الواقع إلى حد رفع شعار الخلافة الإسلامية، بينما المسلمون يقتتلون ويسقطون ضحايا صراعاتهم الدموية العبثية التى لا تنتهى».

إن أربع دول عربية على الأقل، مهددة فى كياناتها السياسية، وهى اليمن والعراق وسوريا، فى المشرق، وليبيا فى المغرب العربى. فى حين يعيش اللبنانيون قلقا جديا على «كيانهم» الأقوى من «دولته» إذا ما شملت تداعيات الزلزال الذى يهز المنطقة وطنهم الصغير.

ومما يزيد من حدة الشعور بالخطر، افتقاد المرجعية العربية التى يمكنها أن تتصدى لمعالجة الأوضاع المأزومة التى تتهدد بعض الدول فى كياناتها السياسية وبعضا آخر فى وحدة شعبها.

•••

بتنا نسمع تعابير جديدة عن «مكونات» هذا الشعب أو ذاك. سقطت الهوية الوطنية ـ العربية وسقط الدين الإسلامى جامع الأكثرية الساحقة فى مختلف الأقطار المهددة فى «دولها». صار «للمكون الشيعى» حقوق غير حقوق «المكون السنى»، وارتفع صوت دعاة الفيدرالية فى العراق، لتأمين حقوق السنة فى وطنهم قبل أن «يصادرها الشيعة». ورحب المتطرفون الشيعة باستقلال «الأقاليم» فيكون لهم إقليمهم وللسنة إقليم ثانٍ، وللأكراد إقليم ثالث «إذا ما تنازلت قيادتهم عن جنوحها إلى الاستقلال عن الشركاء العرب الذين لا يعرفون معنى الدولة».

أما سوريا فمناطقها ممزقة بين السلطة المركزية فى دمشق و«قوى الأمر الواقع» وهى تزيد عن خمسين منظمة وتنظيما وفصيلا وبضع جبهات تضم كل منها عددا من «فصائل المعارضة»، وان ظل «داعش» أقواها، إذ يكاد يسيطر مباشرة أو بالنار على أكثر من ثلث مساحة سوريا. صحيح أن معظم هذه المساحة صحراء «بادية الشام التى تمتد إلى العراق أيضا»، لكن هذا التنظيم الدموى يمسك بمسافة طويلة من الحدود السورية ـ التركية، التى منها على الأرجح، قد دخل فى استعراضه الشهير فاحتل الموصل بلا قتال، قبل خمسة عشر شهرا، تم تمدد فى أنحاء الأنبار والرمادى وحتى ضواحى بغداد قبل صده عنها، وان ظل يمطرها ـ وأنحاء عراقية أخرى، بسياراته المفخخة أو بفصائله المقاتلة، لكى تدافع عن عمق «دولته» الغنية بالمال والسلاح والرجال الآتين من أربع رياح الأرض.

وأما فى اليمن الذى كان سعيدا ذات يوم بعيد، فإن الاجتياح العسكرى الذى تورطت فيه السعودية، قد استحضر خطر تقسيمه مجددا إلى دولتين جنوبية وشمالية، مع احتمال ابتداع كيان خاص لحضرموت، لتكون المرفأ النفطى السعودى على المحيط الهندى. وقد أقدمت السعودية على حربها «الجوية» بعد إعداد وتخطيط وتدريب أفادت خلال التحضير من «جيوب» سياسية موالية لها فى الجنوب أساسا كما فى الشمال، بينها ـ للطرافة ـ بعض عتاة الشيوعيين القدامى إلى جانب الإخوان المسلمين فضلا عن طابور من الطامحين والمتعيشين من الحروب.

ولقد ضمنت السعودية لحربها هذه تغطية عربية ملتبسة، إماراتية أساسا، مع مشاركة جوية مغربية كلفت السلاح الجوى الملكى طائرة حربية، ومشاركة أردنية مضمرة و«تفهم» مصرى تمثل فى تأمين البحر الأحمر وصولا إلى مضيق باب المندب.

ولقد ضخمت السعودية الشبح الإيرانى كحليف للحوثيين فى الشمال اليمنى، بهدف إدخال العنصر المذهبى فى الصراع، للادعاء أنها بتدخلها إنما تحمى السنة «الشوافع» الذين لم يكن لهم مشكلة خاصة مع الحكم اليمنى بشهادة سبعمائة سنة أو يزيد من حكم «الزيود» الذين يشكل الحوثيون بعض سادتهم إذ يعودون بأصولهم إلى النسب الشريف.

أما فى لبنان حيث «النظام» أقوى من «الدولة» بما لا يقاس، فتعصف دوامة الفراغ بالطبقة السياسية فيه، وتكشف عجزها الفاضح، من دون تدخل مباشر من الدول ذات التأثير، بالقيادة الأمريكية، ومن دون حضور شريك عربى فاعل كانت تتولاه فى «الزمن الجميل» مصر بشراكة ضمنية مع سوريا، ثم انتقل دور الشريك العربى إلى سوريا مع «حصة معلومة» للسعودية. أما الآن فمع انشغال دمشق بهمومها، وعدم جهوزية مصر للدور الذى ينتظرها، فان السعودية منفردة لا تستطيع النهوض بهذا الدور، خصوصا وقد باتت إيران ذات تأثير لا يمكن إنكاره على مسار الأحداث فى كل من العراق وسوريا، تحديدا، وهو دور قد تعاظم وتشرعن بعد الاتفاق النووى فى فيينا والتسليم الأمريكى به.

•••

ليس النفوذ الإيرانى فى المشرق العربى طارئا أو مستجدا، فعلاقة إيران الثورة الخمينية مع دمشق تعود إلى لحظة خلع الشاه وإعلان الجمهورية الإسلامية. فقد وجد الرئيس السورى الراحل حافظ الأسد فى هذه الثورة «نجدة» تعوضه إلى حد ما انفراط التحالف التاريخى مع مصر بعد تفرد السادات بالسعى إلى الصلح المنفرد مع العدو الإسرائيلى، فى حين كان صدام حسين يبنى «إمبراطوريته» فى العراق متطلعا إلى قيادة المنطقة جميعا. هذا ما قاده إلى شن الحرب على إيران الثورة، مستفيدا من خوف السعودية وإمارات الخليج من هذا التغيير الاستراتيجى فى طهران، الذى من شأنه أن يفتح أمامها أبواب دول المنطقة جميعا.

وبينما كان صدام حسين يحقق نجاحا عسكريا فى حربه على إيران، كانت حكومة الخمينى توطد علاقتها بسوريا وبالمنظمات الإسلامية العاملة فى إطار النضال الفلسطينى، وتدعم النواة المقاتلة ضد إسرائيل فى جنوب لبنان، والتى ستغدو عبر الممارسة الفعالة والتضحيات الجسام والعمل الدؤوب تنظيما وإعدادا ما نعرفه اليوم فى «حزب الله» الذى يعتمد أحدث أساليب التدريب لقوافل من المؤمنين بالجهاد من أجل تحرير الأرض اللبنانية المحتلة ـ آنذاك ـ وصولا إلى تحرير القدس الشريف.

وعندما انفض عرب الخليج عن صدام حسين بعد انتصاره فى الحرب على إيران، ارتكب «رجل العراق القوى» خطيئته القاتلة: قام بغزو الكويت فى العام 1990، فاستفز العالم كله. وكانت الحرب الأولى بالقيادة الأمريكية وبمشاركة عسكرية عربية التى أخرجته من الكويت، وأدت إلى احتلال «الجيوش الحليفة» بعض جنوب العراق، والتى مهدت لحرب أخرى ربيع 2003 وانتهت بإسقاط نظام صدام بكلفة عالية جدا: تدمير العراق.

وانفتح الباب أمام طهران «للثأر» من العراق، وهكذا تغلغلت فى أنحائه مستفيدة من الفوضى العارمة التى ضربته نتيجة إسقاط دولته، وكذلك من نقمة شيعية متأصلة نتيجة استبعاد هذا المكون الأساسى لشعب العراق عن القرار فيه، وكذلك من علاقة خاصة لم تنقطع مع الأكراد الذين سامتهم الحكومات المتعاقبة فى بغداد أصنافا من الاضطهاد بلغت ذروتها مع الحملة العسكرية التى شنها صدام على معاقل الأكراد فى شمال العراق وَتَوَجَها بالمذبحة المعروفة فى حلبجة.

على هذا فالنفوذ الإيرانى فى المشرق العربى «قديم» وهو متغلغل فى أنحاء كثيرة، لاسيما أن طهران قد أفادت من الإهمال العربى الرسمى لقضية فلسطين وإسقاط شعارات التحرير، فاندفعت نحو المنظمات الفلسطينية ترعاها وتمدها بالسلاح والذخيرة والدعم المباشر، وبالذات منها «حماس«و «الجهاد الإسلامى».

وإذا كانت طهران قد تجنبت «العمل المباشر» فى دول الخليج فذلك لأنها تعرف أن الجغرافيا تحكم، ثم إن لها جاليات ذات وزن وتأثير فى مختلف هذه الدول، وبالذات فى الإمارات فضلا عن الكويت، كما أن لها مع قطر شراكة فى الغاز، فى حين أن علاقاتها مع سلطنة عُمان ظلت «مميزة» عبر التاريخ. وهكذا فإن المصالح تغنى عن العسكر.

فى أى حال فإيران اليوم هى غيرها قبل شهر أو يزيد قليلا.

إن الاتفاق النووى يتضمن، من غير إعلان، نوعا من الشراكة الإيرانية ـ الأمريكية «فى منطقة المشرق العربى»، ولم تكن «مصادفة» أن يتزامن تصدر الرئيس الأمريكى باراك أوباما والرئيس الإيرانى حسن روحانى شاشات التليفزيون، للإعلان عن هذا الاتفاق التاريخى الذى يمكن اعتبار التفاهم الأمريكى ـ الإيرانى عنوانه الأبرز ومضمونه الأوسع شمولا من «النووى».

•••

على هذا فإن منطقة المشرق العربى مقبلة على جملة من التطورات والتغييرات، يقررها الغير، فى غياب أنظمة الحكم فيها، المشغولة غالبا فى الدفاع عن وجودها، بينما مصير دولها هو موضع البحث بين «أصحاب القرار».

إننا أمام نقطة تحول مفصلية فى أوضاع دول المشرق وشعوبها فى هذه اللحظة.

وعلينا الانتظار لبعض الوقت قبل انجلاء غبار المعارك فى إعادة توزيع مواقع النفوذ فى هذه المنطقة الخطيرة بإمكاناتها الهائلة ومشكلاتها التى يزيد التدخل الأجنبى من تعقيدها بما يخدم مصالحه، فى غياب أهلها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved