قيادات وقمامات

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 19 أغسطس 2015 - 10:32 ص بتوقيت القاهرة

عشت فى مدن نظيفة للغاية وعشت فى مدن قذرة للغاية. بعض المدن التى تركتها نظيفة لم تكن نظيفة عندما عدت إليها بعد سنوات قليلة أو كثيرة، وبعض المدن التى كانت شديدة القذارة عندما رحلت عنها عدت لأجدها أقل قذارة. مررت بمدن نظيفة للغاية عندما مررت بها شابا وظلت نظيفة للغاية عندما زرتها أخيرا. برن عاصمة سويسرا وبون عاصمة ألمانيا الغربية نموذجان لمدن شيدت على نظافة وأقسم حكامها وأهلها أن يحافظوا عليها نظيفة.

بكين عاصمة الصين، اشتهرت على امتداد النصف الأول من القرن العشرين بالمدينة الأشد قذارة فى العالم. كتب رحالة مستشرقون عن ان نصف ذباب العالم استوطنها مزاحما بعوضا بنفس الحجم وربما بنفس العدد، وعن رائحة تنبعث من المدينة وتزكم أنوف القادمين إليها وهم مازالوا على بعد عشرين وثلاثين ميلا.

قابلت فى حياتى من حذرنى مرات عديدة من سوء الاستقبال الذى يعده لى أسراب من الذباب والناموس المتوحش فى زياراتى لثايلاند والداخل الأرجنتينى وسهول الولايات المتحدة الجنوبية والشمالية على حد سواء. أما الرائحة فحذرونى مرتين، مرة قبل ان اغادر نيودلهى عاصمة الهند لألتحق بعملى فى بكين. ولم يكن ثمة داع للتحذير، فقد استقبلتنى الصين بعاصمة نظيفة لا قمامة فى طرقاتها وأزقتها ولا مياه راكدة بل نساء يعملن طول النهار فى تلميع الأسفلت وأطفال يدهنون الأرصفة. حينذاك كانت أجهزة الإعلام الغربى ترفض نشر أى خبر أو تطور إيجابى عن الصين التى تحولت رغم أنف الغرب إلى الشيوعية. وصلنى التحذير الثانى وأنا فى طريقى من بيروت إلى مقر عمل جديد.. جاءنى التنبيه من أصدقاء لبنانيين عشاق لتونس من رائحة عاصمتها. كانت تتوسط الأحياء الجديدة من تونس العاصمة بحيرة قديمة استخدمتها أجهزة البلدية لصرف المخلفات والقاء القمامة. تولدت الرائحة بسبب ركود المياه وإهمال المسئولين وانسداد قنوات البحيرة، استمرت الرائحة منبعثة خلال معظم سنوات إقامتى فى المدينة إلى حين تقدمت شركة اسكندنافية بعرض لتطهير البحيرة وردم مساحات واسعة منها، لتصبح فيما بعد حيا من اغنى وأرقى أحياء العاصمة التونسية.

•••

أنا عائد منذ أيام إلى القاهرة من بيروت، المدينة التى أحبها إلى حد أننى صرت أقبل اتهامى بأننى رفضت دائما التعرف على عيوبها، أو حتى الاعتراف بوجود عيوب. لم أكن أجد غرابة فى أن يجيبنى أحد المارة على سؤال عن موقع سكن شخص كبير المقام، فيقول تجده على يمينك بعد ثانى «كوم نفاية» على الطريق. حقيقة الأمر أننى لم اعتبر يوما بيروت واحدة من المدن النظيفة جدا، ولكنى كنت اعتبر وجود مكان « مستديم» للقمامة دليل تحضر، بدليل ان بقية الشارع باستثناء مواقع الأكوام كان نظيفا. لم اخف يوما اقتناعى بأن كوم نفاية هنا وكوم هناك لا يقللان من شأن جاذبية بيروت ودفء أحضانها وحلاوة استقبالها، ولا يطفئان الشوق لها ان ابتعدت عنها.

•••

تغيرت بيروت.؟ أم تغير الزمن؟ أم الناس؟ أم تغيرت أنا؟ اسئلة من هذا النوع صارت تتكرر على لسانى كلما اقتربت من لحظة شعور بخيبة أمل فى شىء أو مكان أو شخص. هذه الأسئلة أصبحت تتكرر كثيرا لأن خيبات الأمل زادت كثيرا. بيروت فى هذه الزيارة كانت شاحبة الوجه رأيتها كما لم أرها من قبل، محنية الظهر. لم تبادلنى عند اللقاء النظرة التى عودتنى عليها. تصورت لوهلة مؤلمة لا يدركها إلا من عاش تجربة فراق مفاجئ أو عاشق يكتشف أنه لم يعد مرغوبا فيه أن بيروت ترفض ان ألمسها، تشيح بوجهها عنى، كدت، لولا عشرة السنين الطوال والتجارب العظام، أصدق الشيطان فى صدرى يوسوس بأنها على وشك أن تطلب منى الرحيل.

•••

كانت أكوام النفايات فى كل مكان، لم تكن الأكوام التى عهدتها علامات طريق، تكبر حينا وتتضاءل حينا. تضخمت الأكوام فقد ازدادت طولا وتوسعت عرضا وعلت ارتفاعا. وعلى غير عادتها أطلقت روائح دفعت الناس على الطرقات إلى ارتداء الكمامات، والأهل إلى حبس أطفالهم فى البيوت، والجيران إلى إشعال النار فى بعض الأكوام مضيفين قيظا على قيظ وغيظا على غيظ.

•••

كالعادة فى الأزمات، تتفتق الاذهان عن اجتهادات وتحليلات ذكية. دعيت لحفل غذاء لبنانى فاخر وشهى جمع ممثلين لمعظم ألوان قوس قزح اللبنانى لمناقشة موضوع القمامة. سمعت على الغذاء اقتراحات عديدة مستقاة من تجارب أمم أخرى، كان بينها اقتراح بإقامة «فدرالية قمامة»، كالفدرالية السياسية التى يحاول السياسيون ابتكارها حلا لأزمات لبنان المتكررة.

المدهش فى هذه الزيارة اننى رأيت الشعب اللبنانى يتوحد، وهو نادرا ما يفعل، فى مواجهة قادة الطوائف الذين، بحسب رأى الناس، تسببوا بفسادهم وجشعهم فى أزمة النفايات. أراد الشعب أن ينسى الخلافات الطائفية ليستعد لمواجهة خطر داعش واحتمالات التهجير، فخرج قادة الطوائف كالعادة يذكرونه بها، ويطلبون لأنفسهم وأتباعهم حصصا فى عائد بيع أو تدوير النفايات. سمعت لبنانية تقول، «تراهم معى يذبحون لبنان، وليس فقط بيروت، لعلهم لا يريدون ان يفوتهم الانضمام إلى حفل الذبح الجماعى المقام وراء حدود بلادنا فى سوريا وفى العراق وكردستان وتركيا واليمن وليبيا وغيرها. تراهم، كما أراهم، يحاولون تخديرنا بمعسول الكلام، ولكن أى مخدر هذا الذى يقدر على ابطال مفعول هذه الرائحة الكريهة والنفاذة».

•••

أختم حديثى عن بيروت الحزينة باقتراح آخر خفيف الظل قيل ان دراسات جدوى تجرى بشأنه الآن فى مراكز بحث غربية. يقضى الاقتراح بتعبئة النفايات داخل اسطوانات تحملها صواريخ تنطلق بها من سطح الأرض إلى أبعد نقطة ممكنة فى الفضاء. هناك تطلق الصواريخ حمولتها فتتولى الشمس على الفور حرقها بكفاءة .اقتراح عظيم، ولكن هل توافق عليه القيادات قبل أن تضمن أنصبتها فى عائد نقل القمامات من مواقعها فى شوارع بيروت وقرى الجبل إلى قواعد إطلاق الصواريخ؟

•••

حزينة بيروت. وحزين انا عليها وعلى عواصم عربية اخرى ليست أحسن حالا سواء بقياداتها أم بقماماتها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved