أوسلو ونوبل وسلام لا يتحقق

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الخميس 19 سبتمبر 2013 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

لا أعرف شخصًا حصل على جائزة نوبل للسلام ثم تنازل عنها أو طلب سحبها منه حتى وإن اكتشف فى نوبة ضمير أنه لم يكن يستحقها أو تأكد أن المشروع أو العمل الذى من أجله حصل على الجائزة فشل ولم ير النور. تصورت مثلا أن شيمون بيريز، وقد وصل إلى مرحلة متأخرة جدا من العمر، يقف ليعلن أنه يتنازل عن الجائزة التى اقتسمها مع ياسر عرفات مكافأة لهما على اتفاقية أوسلو، بعد أن تأكد له وللعالم بأسره ولمؤسسة نوبل سقوط الاتفاقية،  إلا إذا كانت الجائزة منحت للزعيمين مكافأة على ما حققاه لإسرائيل من توسع وليس للسلام. لاتفاقية لم تحقق شيئا للفلسطينيين بينما منحت إسرائيل غطاء تواصل تحته الاستيطان فى أراضى الضفة الغربية.

 كتب آفى شلايم وإدوارد سعيد رأيهما فى اتفاقية أوسلو عقب توقيعها ونشرتهما وقتذاك مجلة عروض الكتب البريطانية ذات السمعة الراقية LRB. كان إدوارد سعيد فى مقاله معارضا للاتفاقية وآفى شلايم مؤيدا. قال إدوارد سعيد معارضا إن الاتفاقية لم تكن أكثر من أداة للاستسلام الفلسطينى لأنها تنكرت للحقوق الأساسية للشعب الفلسطينى وتجاهلت الشرعية الدولية، وكتب آفى شلايم مؤيدا فقال إن الاتفاقية وضعت القضية الفلسطينية لأول مرة على طريق السلام. طريق لا يمكن أن يعود من سلكه إلى الخلف. قال أيضا إنها أكدت مبدأ انسحاب إسرائيل من الأراضى المحتلة، وأنها مهدت لقيام دولة فلسطينية.

●●●

مضى عشرون عاما على توقيع هذه الاتفاقية ونشْر هذين المقالين. ويتصادف أن تأتى الذكرى فى خضم جهود يقوم بها الوزير جون كيرى، وكأنه يريد أن يقول إن الاعتراف بفشل اتفاقية أوسلو يجب ألا يمنع الأمريكيين عن مواصلة السعى لعقد اتفاقية أخرى، لا يهم إن حققت الاتفاقية الجديدة شيئا للفلسطينيين، فأوسلو لم تحقق. المهم هو أن تعقد مباحثات ويعلن فى نهايتها التوصل إلى اتفاقية ويدعى طرفا العلاقة ليقفا فى حديقة البيت الأبيض وبينهما باراك أوباما يتوسل إلى نتنياهو أن يمد يده إلى عباس ليتصافحا أمام الكاميرات.

 أذكر أننى كتبت رأيى فى الاتفاقية وكان أقرب إلى رأى إدوارد سعيد مما جعل الرئيس عرفات يغضب منى كما غضب من إدوارد، وقد نقل لى صديق مشترك رسالة منه يعرب فيها عن خيبة أمله، إذ كان يتوقع أن نقدر ظروفه وظروف الشعب الفلسطينى والأوضاع العربية التى تمر فيها القضية، وأن نثق فيه ونترك له أن يجرب خيارا يقرب الشعب الفلسطينى من أمل إقامة الدولة ويفرض على إسرائيل الالتزام بمبدأ الانسحاب من الأراضى المحتلة ولو مرة واحدة.

●●●

تردد وقتها، ضمن حملة إعلانية قادتها الولايات المتحدة ودول أوروبية وأطراف عربية معينة، أن أوسلو كانت أول خطوة مهمة وجادة نحو حل سلمى للقضية الفلسطينية، فبفضلها جرت أول مفاوضات مباشرة بين الطرفين، وهذا فى حد ذاته، حسب منطق الحملة الإعلانية، إنجاز كبير حققته الدبلوماسية الأمريكية «بضغطها المستمر على إسرائيل لتقبل الجلوس مع إرهابيين». قيل أيضا إن الاتفاقية حصلت على اعتراف من جانب السلطة الفلسطينية بإسرائيل واعتراف إسرائيل بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلا للفلسطينيين، وحصلت على تعهد من الطرفين بالامتناع عن استخدام العنف والالتزام باستخدام الوسائل السلمية. هكذا ولأول مرة فى تاريخ الصراع، يحل الاعتراف المتبادل محل الرفض المتبادل ويتنازل الطرفان عن استخدام العنف. وبناء على ذلك أمكن للسلطة الفلسطينية أن تمارس تجربة الحكم الذاتى، أى حكم الفلسطينيين لأنفسهم للمرة الأولى فى تاريخ هذا الشعب، أو هكذا أكدت الحملة الإعلامية المسلطة للترويج للاتفاقية.

●●●

 ما لم يدركه المفاوضون الفلسطينيون فى ذلك الحين هو خطورة المبدأ الذى رسخته أول اتفاقية يتوصل إليها الطرفان. أقصد بذلك تأجيل التباحث حول مستقبل القدس والتوسع الاستيطانى فى الأراضى المحتلة وقضية الحدود. أما شيمون بيريز، الرئيس الحالى لإسرائيل، والمشرف وقتها على مفاوضات أوسلو باعتباره وزيرا للخارجية، فقد عبر بوضوح عن الإنجاز الأكبر الذى حققته إسرائيل من الاتفاقية عندما قال إن السيد عرفات كان قد وافق قبل أوسلو على استعداده الانتقال من التمسك بخريطة 1947 (أى خريطة الأمم المتحدة للتقسيم) وهى الخريطة التى وعدت الفلسطينيين بأراض تصل إلى 44٪ من مجمل مساحة فلسطين، إلى خريطة عام 1967. وفى أوسلو عاد فتنازل عن 22٪ من أراضى الضفة الغربية. تساءل بيريز «هل كان يمكن لزعيم عربى آخر أن يتنازل عن 2 أو 3٪ من أراضى الضفة، هذا الرجل تنازل عن 22٪». رجل عظيم.! أما الواقع فيشهد بأن عرفات تنازل فى أوسلو عن أكثر من 22٪ لأنه فى واقع الأمر تنازل عن 50٪ من الأراضى التى اعترفت الأمم المتحدة بحق الفلسطينيين فيها حسب قرار التقسيم.

 يقول آفى شلايم إن أوسلو سقطت سقوطا مدويا فى عام 2000 مع فشل المباحثات التى دعا إليها الرئيس الأمريكى بيل كلينتون بإخراج مسرحى وبدون ترتيب لتنعقد فى كامب دافيد، وهو الفشل الذى أعقبه اشتعال الانتفاضة الثانية. ومع ذلك فإن الكثيرين يعتقدون أن اتفاقية أوسلو سقطت يوم اغتيال إسحق رابين فى عام 1995 أى بعد عامين من توقيع الاتفاقية، إذ حدث وقتذاك أن جاء بنيامين نتنياهو أشد الكارهين لأوسلو رئيسا لحكومة إسرائيل وعمل على الفور ولمدة السنوات الثلاث اللاحقة على موت رابين على نقض كل التزامات إسرائيل وخلق الجو المعادى للاتفاقية فى إسرائيل والأراضى الفلسطينية، سواء بالتوسع فى الاستيطان أو ببناء الجدار أو بتحدى الحكام العرب الذين وجدوا أنفسهم مضطرين مرة أخرى أما الضغط الأمريكى لتقديم تنازل كبير ضمن ما أطلقوا عليه المبادرة العربية.

 ●●●

 الغريب أنه رغم الفشل المتلاحق فى محاولات التوصل إلى سلام بين إسرائيل والفلسطينيين، يظل حلم كل رئيس أمريكى أن تتحقق فى عهده صيغة ما للسلام فى الشرق الأوسط.  كان واضحا أن أوباما عاش هذا الحلم لفترة خلال رئاسته الأولى، ولكنه أفاق من حلمه مذعورا أمام الحملة الوحشية التى شنتها جماعات الضغط اليهودى ضد إدارته لمنع الرئيس من أن يتمادى فى هذا النوع من الأحلام. ولذلك فإنه حين عاد فى فترة رئاسته الثانية ليستكمل الحلم وإن فى شكل جديد كان واعيا إلى ضرورة إرضاء شعب إسرائيل أولا قبل أن يدعو إلى مباحثات جديدة بين طرفى  الصراع، وبالفعل كلف وزير خارجيته جون كيرى بذل الجهود الممكنة لحمل الطرفين على بدء جولة محادثات جديدة، وإحاطة هذه الجهود والمباحثات بجو مصطنع من التفاؤل والجدية والنية فى التوصل إلى نتائج ملموسة ليس بينها الحقوق المشروعة للشعب الفلسطينى. وللحق يجب أن نقدر لأوباما أمانته لأنه لم يعد الفلسطينيين هذه المرة بشىء له قيمة.

 كثيرون انتصبوا للدفاع عن هذه الجولة من المحاولات الأمريكية كما دافع من قبلهم عن جولات مماثلة. استندت أغلب حججهم إلى الرحلات المكوكية التى قام بها جون كيرى والتحضيرات التى ساهم فيها عسكريون أمريكيون بهدف طمأنة العسكريين الإسرائيليين إلى أن الأمن الإسرائيلى ستكون له الأولوية على أى بند آخر فى المباحثات. بمعنى آخر جرى البحث مطولا حول الأسلوب الأمثل لمنع وصول «إرهابيين» إلى الدولة الإسرائيلية من الدولة الفلسطينية المزمع إقامتها على مساحة أمتار معدودة، برغم التداخل المفترض بين بعض أراضى وسكان الدولتين. تفاءلوا أيضا لأن كيرى استطاع إقناع الطرفين بأن تمتد المباحثات لمدة تسعة أشهر كحد أقصى، وأن تجرى فى سرية مطلقة بعيدا عن أجهزة الإعلام ودبلوماسيات الدول الأخرى.

كان يقال عن سبب فشل الجولات السابقة أنها لم تستمر وقتا كافيا وأنها خضعت لتأثيرات الرأى العام، وهو بالضبط ما حدث فى اجتماعات كامب دافيد التى عقدها كلينتون واستمرت أسبوعين فقط تحت ضغط ضيق الوقت بسبب اقتراب نهاية مدة حكم الرئيس كلينتون. وفى عامى 2007 و2008 انتهت مباحثات أخرى باستقالة إيهود أولمرت بسبب فضيحة فساد. أما المفاوضات الحالية فهى تجرى فى بداية ولاية جديدة للرئيس أوباما، بمعنى أن وقت التفاوض ثم مراقبة التنفيذ يمتد لعامين آخرين أو أطول.

تردد، بين ما يتردد، أن جون كيرى كان حازما وقاطعا مع الطرفين حتى التزما بمدة الشهور التسعة اللازمة لإنهاء المباحثات.  ومع ذلك يظل الشك قائما فى قدرة الولايات المتحدة على فرض عقوبات على الطرفين أو طرف منهما فى حال لم تنته المباحثات فى الموعد المحدد. قيل مثلا إن الاتحاد الأوروبى ألمح إلى أنه يستطيع أن يعاقب الفلسطينيين بحرمانهم من معوناته الاقتصادية ويعاقب إسرائيل بفرض عقوبات عليها، وأنه بالفعل قرر تقييد وارداته من منتجات المستوطنات أو منعها كلية كمثال على ما يمكن أن يفعله لمعاقبة إسرائيل إن هى عرقلت المباحثات.

 تعتمد أمريكا أيضا على واقع أن محمود عباس وقد بلغ الثامنة والسبعين من العمر يعتبر أن هذه آخر محاولة فى حياته لتحقيق أمل أو أكثر من آمال شعبه. يعلم عباس أن كيرى لم ينجح فى إجبار إسرائيل على تجميد الاستيطان خلال الشهور التسعة، وهو الأمر الذى يعنى استمرار القضم المتتالى والشره لأراضى الدولة الفلسطينية المزمع إقامتها. يعلم أيضا أن فشله فى هذه المباحثات يعنى صعود قوة حماس فى الضفة ويهدد أمن واستقرار السلطة الفلسطينية.

 من ناحية أخرى، راهن الفلسطينيون وبعض المفاوضين الأمريكيين على أن الإسرائيليين يدركون بشكل أو بآخر الميل المستمر للكفة الفلسطينية فى ميزان السكان، الأمر الذى يهدد فكرة يهودية الدولة، حلم نتنياهو المقدس. أما التلويح الأمريكى المتواصل لنتنياهو ومعاونيه باحتمال نفاد صبر العرب، فجهد ضائع لأن الإسرائيليين على ثقة كاملة بأن الحكام العرب توقفوا عن أن يكونوا طرفا فى معادلة الصراع بوضعه الراهن ووضعهم الحالى، وأن المبادرة العربية التى ما لبث الأمريكيون يحاولون تطويرها لصالح إسرائيل خرجت فى الأصل فاقدة القيمة، وهو ما أعلنه المسئولون الإسرائيليون لحظة صدورها، ومازالوا يرددون هذا الإعلان بعد أحد عشر عاما.

 ●●●

 أعتقد أن جون كيرى لن يتخلى عن لعب الدور الذى اختاره لنفسه رغم أنه ربما لم يحسب حساب التطورات فى الأزمة السورية، وربما لم يدرك أن اختيار مارتين إنديك لم يكن قرارا سليما، ولعله اكتشف أيضا أنه لم يقدر جيدا كفاءة دنيس روس وآخرين فى وضع العراقيل وتخريب جهوده وحشد فصائل فى الجالية اليهودية الأمريكية للضغط على الكونجرس وإفساد مهمة إنديك عند الحاجة.

لا أستبعد أن يواجه جون كيرى تعقيدات أخرى لم تكن فى حسبان الأطراف الثلاثة، الأمريكى والإسرائيلى والفلسطينى، منها الدور المتصاعد لروسيا فى شئون الشرق الأوسط وبخاصة خلال الشهور القليلة القادمة واحتمالات تطور الأوضاع الداخلية، وبخاصة الأمنية، فى مصر، والاستعدادات المتصاعدة من جانب تنظيمات فلسطينية للعودة للعمل فى أراضى دول الجوار لأهداف ليست بالضرورة فلسطينية.

ومع ذلك لن تصيبنى دهشة شديدة إن أفقت ذات يوم على خبر التوقيع على اتفاقية أسوأ كثيرا من اتفاقية أوسلو، ولا دهشة شديدة أخرى عند سماعى خبر منح جائزة نوبل لمحمود عباس وتسيبى ليفنى وجون كيرى لدورهم جميعا فى خدمة هدف تحقيق السلام.             

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved