فى المستشفى القبطى

أهداف سويف
أهداف سويف

آخر تحديث: الأربعاء 19 أكتوبر 2011 - 9:20 ص بتوقيت القاهرة

مساء الاثنين ١٧ أكتوبر.. لا أعرف بالضبط ما الذى كنت أتوقعه، حشدا، مثلا، من الناس؟ أعلام مصر ترفرف على المداخل وفى الطرقات؟ لافتات تقول «هنا يرقد مصابو الشعب فى ماسبيرو»؟ طيب.. بعض باقات من الورد؟ طيب.. زخم إعلامى؟ لا شىء. لا شىء على الإطلاق. رجال وشباب، على أسرَّة فى عنبرين، وحولهم بعض الأمهات والزوجات. عادى جدا.. وكأن الواحد منهم داخل المستشفى يشيل الزائدة مثلا.

 

هؤلاء هم من سجل لهم التاريخ أنهم من أوائل المصريين، فى العصر الحديث، الذين يطلق عليهم الجيش المصرى الرصاص:   

 

مريد، ليس شابا، رجل واضح أنه فى مرتبة الأب أو الأخ الأكبر للشباب فى العنبر. يَحكِى عن الطوب والزجاج الذى نزل على المظاهرة فى القللى، فتجاوزتها. يَحكِى أن المظاهرة حين وصلت ماسبيرو «طلع عليها رجالة من داخل مبنى الإذاعة والتلفزيون: عساكر وأمن وبلطجية، كله لابس مدنى وداخل فى بعضه، والرصاص اللى بيضِّرِب ميرى».

 

«أخد رصاصة فى ظهره طلعت من بطنه، فتحة دخولها ٦سم ربنا سَتَر كان بينها وبين العمود الفقرى قيراط» السيدة زوجته إلى جانبه، مليحة، ومتحدثة بل وخطيبة: «الكبار عارفين المدخل للشعب ده فين وبيدخلوا منه ...». زوج أختها شاب، قُتِلَ فى ماسبيرو: رصاصة فى الصدر، ورصاصة فى القلب نفسه. وكهرباء فى راسه.

 

«مش احنا اللى مستهدفين ...»

 

«من زمان عايشين مع بعض حبايب ...»

 

«هم اللى مستهدفين. عايزين يضَلِّموا لهم عقولهم. شوفى القنوات المحرضة بتقول إيه ...»

 

«التحريض على قنوات معروفة. مش ممكن التفكير الرجعى اللى بيترَوِّج له. داحنا مش عارفين نفتح مصنع تكاتك».

 

«البلد كلها مستهدفة. واحنا الكارت اللى بيلعبوا بيه». 

 

«والبلطجية هم عارفينهم واحد واحد، بالاسم».

 

«كان معانا مسلمين كتير جدا ...»

 

«وهو كان فى الثورة كل يوم مع المسلمين. بُصِّى!» فى الصورة رجل مهندم، مبتسم، ذقنه مشذب به شيب خفيف، بجانبه رجلان يلبس أحدهما لبس الشيوخ. الكل مبتسم. الكل يمسك بلافتات وأعلام. الكل يُشعّ بذلك الضوء الذى كان يلفنا وينبع منا فى أيام التحرير.

 

«كانوا يكلموه م الصبح: انزل. وينزل لهم. هم فين دلوقت؟ أهو اتصاب. حد سأل عليه؟ ولا حد».

 

«مش ممكن يكون ده جيشنا اللى بنحبه وبنعزه. مش ممكن يكون ده اللى حارب لنا فى ٧٣».

 

 ●●●

 

ناجى، ٢٤ سنة: «فى نفق شبرا كان فيه ضرب نار حى. عيال صغيرة لابسة مدنى بس بتضرب نار. فى القللى الضرب سخن شوية. فى التحرير، عند الكوبرى، لقينا المدرعات مستنية. صاحبى، بيتر، دماغه انشقت ومخه فرفر فى الأرض. قلعت الفانلة وشلته. شلته لميته بإيدى ما لقيتش نفسى قرفان منه. جبت بيتر ع المستشفى وخدت تاكسى للتحرير. عشان الشهيد وائل اتصل بيا. وائل كلمنى وقاللى أنا عايزك، أنا حاسس إنى هاموت دلوقتى وعايزك. رحت له فى التحرير قال لى خلى بالك من ابنى الصغير وابنى الكبير وطلع ع المدرعة الرصاصة دخلت فى صرصور ودنه وطلعت الناحية الثانية. ربنا ادانى قوة وشلته وصلنا تحت الكوبرى لقينا عَشَر عساكر ضربونى. بقوا يضربونى ويكهربونى وأنا ماسك فى الشهيد وائل. ناديت على مار جرجس، قلتله إنت بطل، وقفت قدام الجيش كله، أنا ابنك أقف جنبى. ظهر لى. بقوا يضربونى، يضربونى وأنا واقف ...»

 

«عنده رضوض فى الكلى. وعنده بؤرة ف راسه من الضرب والكهربا. كهربوه. الكهربا جابت له صرع. وساعات يقعد  يعَيَّط بالساعات بيقطَّع مصاريننا ...»

 

«... واقف مش حاسس. الآخر شالنى. مار جرجس شالنى أنا ووائل وجابنى هنا واختفى. حطونى فى الخشابة، قعدت مع الميِّتين أربع ساعات مافيش نَفَس ولا قلب ولا نبض. لما الطبيب الشرعى جه يشتغل الحمد لله فتحت عينى. الحمد لله. الحمد لله. طلع ان المسيح فوق ماراحش ف حتة بعيدة».

 

ناجى، يرتدى تريننج أزرق فى أبيض، والده متوفى وعنده اخوات بنات، يبحث عن عمل «أى حاجة انشالله زبال».

 

●●●

 

رزيقى: «رحت ماسبيرو الساعة خمسة. وقفنا باليافطات والهتاف، ولما الدنيا ضلِّمت ولعنا شموع، وكانت مجموعات الأمن محاوطانا. لما جت المسيرة كانت مجموعات الأمن أكبر م الخيال، حاولت اجيبلها نهاية لغاية الكوبرى ماجبتهاش. الجيش ضرب نار ودخل بالعُصيان. قعدنا نجرى. جم ناس قالوا ارجعوا ماتخافوش. رجعنا، فوجئنا بمدرعة جاية من ورانا، كنا خمسة، أنا الوحيد اللى طلعت حَىّ، ماتمكِنِتْش غير من رجليّا: كسور وتجمع دم، ومجموعة أمن شغالة ضرب والبنات تصرَّخ وتشد ف شعرها وتلمّ ف الناس اللى مَرميَّة فى الأرض والأمن يضرب فيهم. لما الأمن اتلهى عنا اتعكزت على واحد ولقيت باب عمارة مفتوح دخلت فيها لقيت فيها أعداد كبيرة من المسيحيين، أطفال وبنات وحريم، وقفلوا الباب بعد ما دخلنا. جت مجموعة شرطة قعدت تكسّر فى الباب بس ما فتحش. قعدنا ساعتين وشوية والحرب شغالة برة وناس بتموت ودبابات بتولع. لما الجو هِدِى جت ناس خدتنى وبعدين حوارات كتيرة بقى: تاكسى وبعدين موتوسيكل وماعرفناش نمشى وقعدنا ف جراج ودخلوا علينا بلطجية خدوا فلوس ...».

 

«تهديد يعنى؟»

 

«لأ. قالو هنطلعكوا بس لموا فلوس. واحد نده مجموعة أمن ...»

 

«مش الأمن ده اللى كان لسة بيهاجمكم؟»

 

«شر أخف من شر. وقلنا الجو اتنضف شوية وكل اللى عاوز يعمل حاجة عملها، والأمن فتشونا مالقوش معانا سلاح مشيوا. واحد أمن رجع قاللى ماتطلعش برة دلوقتى، اللى بيطلع بيموت».

 

●●●

 

رومانى، ٢٧ سنة، أوراسكوم «بس ماليش تأمين ولا معاش لا أى حاجة ....» ابتسامة: «عامل تحت الطلب يعنى».

 

الرصاصة دخلت فى كوعه وطلعت من الناحية الثانية.

 

«أكبر مشكلة دلوقتى التقارير الطبية. جالى تقرير إنى مضروب بآلة حادة فرفضته».

 

كتبوا له تقريرا آخر: «كسر مفتت ومضاعف بالكوع الأيسر وقطع بالأعصاب المغذية للساعد واليد»، ورفضوا كتابة سبب الإصابة: الرصاصة. قبل بالتقرير لأنه يحتاج إلى عدة عمليات فى الذراع، لكنه أثبت تحفظه فكتب عليه: «أثبت اعتراضى على التقرير الطبى وسوف أقوم بتحويله إلى الطبيب الشرعى بمعرفة النيابة».

 

«مش هاسيب حقى. مانا ماقدرش أسيبه لإنه مش حقى أنا بس، ده حق الشهداء».

 

ويتشعب الحديث..

 

يدعونى أحدهم إلى زيارة ماسبيرو حيث سوف أرى طلقة دخلت فى عمود نور وطلعت من الجانب الآخر: «شوفى بقى دى لما تفوت فى إنسان، فى جسم بنى آدم، تعمل إيه».

 

نسمع من عنصر من هيئة المستشفى ان «بتيجى ناس من القوات المسلحة تقعد مع الإدارة».

 

«أنا عايزك تربطى بين ماسبيرو والجمل، وتشوفى اللى عمل ده عمله ليه».

 

«بييجوا ناس يكلمونا ويروحوا يكتبوا اللى على مزاجهم ...»

 

«بيروحوا يشحتوا علينا برة ...»

 

«مصالح ...»

 

«تدَخُّل من برة مش هيقدم ولا هيأخر، فى الأول وفى الآخر البلد دى بلدنا، واللى مايتحلش من جوة من عندنا مش هيتحل».

 

«احنا هنفضل نقول كلمة الحق، وكلمة الحق دى مش بس للأقباط، دى للشعب كله، علشان دى روح بتتزرع فى البلد غلط لمصلحة حد. كانت لمصلحة النظام، طب ماحنا ثرنا ع النظام. دلوقتى لمصلحة مين؟»

 

«احنا مش مُستهدفين لنفسنا بس هو التخلف. دى مصالح. فين فلوس قناة السويس؟ فين الزراعة؟ بلدنا مش مكفيانا ليه؟»

 

●●●

 

أبونا يزور الجميع ويتحدث معهم ويباركهم. يزور أيضا عماد محمد الراقد فى الغرفة المجاورة ويدعو له بأن يحفظه الله. عماد كان مهددا. لكن بالأمس نجح الجرّاح فى إخراج الرصاصة من رجله وحَرِّزَها. يشعر بقدر من الأمان، وينتظر أمه لتبيت معه.

 

●●●

 

 سامى، انضرب من ٦ شهور فى أحداث الثورة. أتى زيارة وتضامنا. خريج مساحة وكان يعمل «مسّاح جغرافى». رجله اتكسرت ومش هتتصلح وأصبح معاقا. يبحث عن أى عمل. وقتها كان عريس جديد متزوج من شهرين. زوجته محامية وباقى لها حاجة بسيطة على الماجستير. يسأل «ليه يحصل كل ده؟ الدنيا تسوى إيه؟ ناجى نزل سلمى عشان خاطر أمه. تسوى إيه ينضرب كدة؟  الحمد لله شقتى مِلك وده اللى مخللينى قادر أكمل. بس لازم أشتغل ومش لاقى شغل. مراتى تعبت معايا. عايشين عيشة صعبة بس الحمد لله. عارف ان ليّا رصيد فوق ...»

 

●●●

 

فى المستشفى القبطى ناس مصريين. أملهم كان كبير فى الثورة. وبعضهم شارك فيها. ولما الأحوال فى الواقع لم تتغير، ولما كثرت الاعتداءات عليهم، ولما أزيحوا بعنف من أماكن الاعتصام والاحتجاج، نزلوا فى مسيرة سلمية كبرى شاركهم فيها عدد من إخوانهم المسلمين فأصبحوا ميدانا ومسرحا وضحية لمؤامرة جديدة/قديمة على مصر وشعبها.

 

مشكلاتهم الأصلية هى مشكلات شعبنا: البطالة، والتعليم، والصحة ــ يعنى الافتقار إلى العدالة الاجتماعية. زد عليها استخدامهم كورقة فى اللعبة التآمرية: جزء أصيل من شعب مصر يحاول الإعلام الرسمى، ومشوِّهى ديانة الأغلبية أن يستَعْدوا عليه إخوانه فى الوطن وقواته المسلحة، فيصبح أبناؤه أول مصريين يسقطون برصاص جيشهم. وتستمر اللعبة بدعوة أطراف خارجية للتدخل لحمايتهم ــ وحولنا ما يجرى فى السودان والعراق وغيرهما.

 

لعل أهم منتج حضارى طلع من هذه المنطقة الجغرافية التى توسطت العالم القديم، وقامت فيها المجتمعات والحضارات الأولى، هو نموذج أسلوب حياة تتعايش فيه الأعراق والديانات. ولا أقصد بالتعايش ان كل واحد يكون فى حاله ونكتفى بألا يسب أو يقتل جاره، بل أقصد أن بين الكل عيش مشترك، المساحة الجامعة للكل فيه أوسع كثيرا من المساحة التى ينفرد فيها كل بنفسه. هذا النمط من الحياة، الذى يفترض بل ويرحب بالاختلاف كمكون من مكونات الجماعة، هو ما تميزنا به، هو ما نتجت عنه مساهماتنا فى ميادين الحضارة الإنسانية المختلفة، هو، فى الواقع، سر قوتنا وتحملنا ما حيك حولنا من مؤامرات فى القرنين الماضيين.

 

مريد، وناجى، ورزيقى، ورومانى، وسامى، الراقدون الآن فى المستشفى القبطى بالقاهرة هم، مع بقية مسيحيى مصر، بوعيهم، وإنسانيتهم، ما يقف بين بلادنا ومحاولات تصغيرها، وتحجيمها، وتلخيصها، وتبسيطها، وتسطيحها، وتجهيلها إلى أن تصير مسخا كان يوما اسمه مصر. وهم مواطنون مصريون، اعتدت عليهم قواتنا المسلحة والأمنية بدون وجه حق، كل واحد منهم حياة وأهل ومنظومة تحتاج الآن إلى الدعم والمساندة، ودعمهم ومساندتهم ــ كل بما عنده من مهارة أو خبرة أو مادة ــ هو من دعم ومساندة بلادنا، وإصرار على أن نعبر بها من هذه المرحلة القلقة إلى الآفاق الرحبة المرجوة. قال الإخوة فى المستشفى القبطى: «الحمد لله. ربنا يتمجد عشان يكون على الأرض السلام». آمين يا رب العالمين.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved