«حكاية فخرانى».. فى البحث عن مفتاح الحياة

محمود عبد الشكور
محمود عبد الشكور

آخر تحديث: الخميس 19 أكتوبر 2017 - 9:45 م بتوقيت القاهرة

هذه روايةٌ فريدة، تقدم رحلةَ بحثٍ شاقة عن الذات وعن معنى ومفتاح للحياة، كُتبت بأسلوبٍ شديد الثراء والرصانة، وتشكلت بطاقة عشق، ثم سوّيت على نار هادئة، مثلما صنع أحد أبطالها من الفخار آياتٍ من الجمال.
«حكاية فخرانى» لمؤلفها محمد موافى، والصادرة عن دار الشروق، ستكون حتما فى قائمتى لأفضل روايات 2017، ذلك أنها تحقق نجاحها الفنى رغم صعوبة موضوعها، ورغم صعوبة الكتابة عن «ابن عربى» وتجربته وأسراره، يحافظ موافى على فكرته فلا يفلتها، ويمزج رحلاتٍ ثلاثا معا بصنعةٍ ذكية، هى بالضرورة رحلات بحث عن الذات، وعن الحقيقة، وعن معنى الوجود، ولكنها عبر ثلاثة أزمنة.
الأسئلة ما زالت تطرحُ نفسها، والإجابات ليست سهلة، وإنما تتم بجهاد أكبر بكثير من جهاد السيوف، جهاد النفس، والفرن الذى يحترق فيه الفخار أقل نارا من فرن التجربة الذى دخلته شخصياتُنا الثلاث، ثم خرجت منه لتولد من جديد.
يصدق ذلك على تجربة «ابن عربى»، مثلما يصدق على تجربة المهدى الكبير، الذى نسخ كتاب «الفتوحات المكية»، فصار أسيرا لصاحبه ولتجربته الصوفية، ويصدق أيضا على تجربة الحفيد زين القاسية ما بين عامى 1977 و1980، فيعبر بذلك عن اغتراب جيل زمن الانفتاح والصلح مع إسرائيل، يحسبونه على المجانين، تختل موازينه، فيصبح مُلحدا، يحاول الانتحار، ولكنّ مخطوطا كتبه جده المهدى عن ابن عربى، يعيده من جديد إلى الطريق.
تتداخل التجاربُ الثلاثُ من خلال سرد ساحر، يبدو الراوى غامضا حتى نكتشفه فى سطور الرواية الأخيرة، وعبر بوابات الرحلة الصعبة، تتشكل الحكاية: «ابن عربى» اختار الرحيل من الأندلس فى زمن الاضطراب، و«المهدى الكبير» أُجبر على الرحيل من أسيوط بعد أن واجه تعسف جنود محمد على باشا، و«زين» اختاره الانعزال، واختار الانعزال، وتجربة «ابن عربى» الصوفية لا تموت أبدا، بل إنها هى التى ستهدى المهدى، وحفيده زين، إلى سلاح المقاومة، وإلى خلاصة المعنى..
فالسبيل هو الوصول، والوصول هو السبيل، والعشق والتسامح هما «الحل»، والعثرات ولحظات الضعف ليست سوى بدايات للقيام والصعود، والروح والقلب هما جوهر الإنسان، أما الجسد فهو مثل جدار آنية الفخار، يستخدم موافى بذكاء تفاصيل صنعة الفخار فى مصر القديمة، لكى يشكّل منها رمزًا لرحلة الإنسان نفسه، ذلك الذى لا تصقله إلا نار التجربة، ولا تصنعه إلا أفران الحياة القاسية.
وإذا كانت تجربة ابن عربى عميقة وخطيرة ووليدة العزلة، وإذا كان كتابه «الفتوحات المكية» محملا بالإشارات الموجهة للخاصة، فإن المهدى، عندما يستدعى روح ابن عربى، ينقله من جديد إلى قلب الحياة، يدافع عنه، ويفسر للقارئ سر غموضه، ويستفيد من تجربته الروحية الهائلة، ثم ينتقل المخطوط إلى الحفيد، فيعيده من جديد إلى الحياة، التصوف إذن ليس بعيدا عن الحياة فى صخبها اليومى، ولكنه يمكن أن يكون أيضا وسيلة للتعامل معها، ولمواجهة أزماتها، واختلال موازينها، باكتشاف الذات والروح، بالتصالح معهما، مثلما فعل زين، الذى أحب وعرف، فنجا وروى.
هذه روايةٌ تنفذ إلى جوهر التصوف بفهم وبوعى، فينعكس ذلك على لغتها السردية التى تُحمّل العبارات معانى إضافية، ربما أدى ذلك أحيانا إلى بعض الاستطراد، والتأمل المباشر، رغم أن الشخصيات والحكايا قادرة وحدها على نقل المعنى.
تمنيتُ ــ أيضا ــ لو تلوّن الحوارُ بلون كل شخصية وأسلوبها ومفرداتها، ولكن أعجبنى كثيرا توظيف المأثور الشعبى، وهذه التحية الضمنية لفعل الكتابة: «ابن عربى» يكتب الفتوحات، فيكتب «المهدى» مخطوطة مستلهما روح ابن عربى، ثم يكتب «زين» حكايته وحكاية جده المهدى وحكاية «ابن عربى»، وأعجبنى أن إيقاع السرد المتمهل، يتسق تماما مع تجربة روحية بالأساس، صراعها المحورى فى داخل شخوصها، أكثر مما هو فى خارجها.
«حكاية فخرانى» رواية تعيد الاعتبار إلى الجهاد الأكبر؛ جهاد النفس، إلى العقل الذى يفك أسرار علم الأسرار، إلى القلب الذى لولاه لكنّا أحجارا، إلى الروح التى بها نرتقى فنصعد، وإلى العشق الذى يجعلنا نعيش ألف حياة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved