عن مصر وروسيا

تميم البرغوثى
تميم البرغوثى

آخر تحديث: الثلاثاء 19 نوفمبر 2013 - 7:00 ص بتوقيت القاهرة

جرى فى الفترة الأخيرة تطور يبدو للوهلة الأولى غريبا فى الشرق الأوسط، فقد بدت فى الأفق ملامح تقارب مصرى روسى بدأ، كما تبدأ هذه العلاقات عادة، بصفقة سلاح. وبالرغم من كثرة التحليلات التى ترى فى هذا التطور تغيرا جذريا فى خريطة التحالفات فى المشرق، فإن بعض التدقيق فى تفاصيله قد يدفعنا إلى الحذر قبل الوصول إلى استنتاج كهذا.

إن التقارب المصرى الروسى خطوة فى الاتجاه الصحيح إن كان قرارا واعيا بالتحول الاستراتيجى بعيدا عن الولايات المتحدة، إلا أن أغلب ظنى أنه ليس كذلك، بل هو فى جوهره رسالة تهديد موجهة إلى الولايات المتحدة لتحفيزها على إعادة ضخ المعونات العسكرية لمصر. هى خطوة الهدفُ النهائى منها هو تمتين العلاقة مع واشنطن لا قطعها. ودليلى على ذلك هو أن الأسلحة التى تنوى مصر شراءها من روسيا ستشتريها بأموال سعودية وإماراتية، وهذا يضع سقفا منخفضا للعلاقات المصرية الروسية المستأنفة. فإن كانت السعودية هى التى تمول صفقة السلاح المصرية الروسية، وإن كانت روسيا هى أكبر حليف دولى لإيران، والسعودية هى أكبر غريم إقليمى لها، فإن هذا يعنى أن الرياض لن تريد أن ترى حليفا آخر لموسكو فى مصر فتكون بين حليفين كبيرين لروسيا كأنها بين شقى رحى. نعم إن حكام موسكو والرياض والقاهرة اليوم لهم عداوة مشتركة مع جماعة الإخوان المسلمين، ولكن بينهم من الخلافات ما هو أكبر من هذا المشترك، فالرياض تريد أن ترى طهران ضعيفة بينما تريدها موسكو قوية، والرياض تريد إسقاط النظام فى سوريا حتى وإن أدى ذلك إلى تفتتها بينما ترى القاهرة أن بقاءها موحدة، حتى تحت النظام القائم هو أهون الشرين. إن هذا الخلاف بين السعودية ومصر وروسيا حول طهران ودمشق أعمق من التقارب المؤقت بينهم ضد الإخوان المسلمين، والأمريكيون يعلمون ذلك، لذلك يبدون مطمئنين نسبيا.

 

ثم إن واشنطن تدرى أن مشكلة مجافاة الرياض والقاهرة وأبو ظبى لها لا تختلف كثيرا عن مجافاة حزب الليكود والحكومة الإسرائيلية لها فى الأونة الأخيرة، هو جفاء مع الحزب الديمقراطى الأمريكى ومع إدارة باراك أوباما تحديدا، لا مع الولايات المتحدة. قد تشترى إسرائيل سلاحا من الصين بين الحين والآخر، وقد تتبادل الخبرات مع روسيا، بل وقد تتجسس على واشنطن خاصة فى لحظات الجفاء العابر معها، بل قد يؤيد رئيس الوزراء لإسرائيلى بنيامين نتنياهو ميت رومنى المنافس الجمهورى لباراك أوباما فى الانتخابات الرئاسية الأمريكية، ولكن تبقى إسرائيل مع ذلك حليفا استراتيجيا للولايات المتحدة. إن مصر بصفقة السلاح الروسية المشتراة بأموال سعودية لم تصبح خصما للولايات المتحدة الأمريكية إلا بقدر ما يمكن اعتبار تل أبيب خصما لواشنطن إذا اشترت سلاحا من الصين أو عبس نتنياهو فى وجه جون كيرى ذات اجتماع. ثم إن حكامنا ملكيون أكثر من الملك واستعماريون أكثر من المستعمِر، وأمريكيون أكثر من الأمريكيين، يجافون واشنطن لأن بعضهم كان يريد منها أن تغزو سوريا كغزوها للعراق، والبعض الآخر كان يريد لها أن تحمى حسنى مبارك قبل سنتين، أو سياسات حسنى مبارك المستأنفة فى مصر بعد أحداث هذا الصيف، تماما كما أن إسرائيل تجافى واشنطن لأنها تريد منها أن تقصف إيران نيابة عنها. فإن كانت مجافاة العرب لواشنطن كمجافاة إسرائيل لها، فإن الأمر يكون أقرب للخلاف الداخلى بين الحلفاء منه للجفاء أو العداوة، وهو لا يخيف واشنطن فى شىء.

 

إلا أنه وبالرغم من سوء نوايا حكام القاهرة وأغراضهم من وراء هذا التقارب مع موسكو، وبالرغم من محدوديته التى يفرضها المال السعودى والإماراتى، فإن التقارب فى حد ذاته يبقى خطوة فى الطريق الصحيح، لكنها خطوة واحدة فحسب بينما كل الخطوات الأخرى فى الطريق الخطأ. إن العلامة الكبرى على ارتهان مصر وأمنها القومى للولايات المتحدة الأمريكية هى اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل. ولا يمكن أن تعتبر أية ثورة فى مصر ناجحة ما لم تُلغَ إتفاقية كامب ديفد، وما لم تصبح سيناء ثم غزة غابتى سلاح لردع أى تقدم إسرائيلى إليهما. والواقع هو أن هذه الاتفاقية تشهد اليوم عصرها الذهبى، فمصر تخوض عمليات عسكرية فى سيناء ضد مواطنين مصريين، أيا كان رأيك فيهم، بالتنسيق مع إسرائيل، وهو تنسيق اعترف به المتحدث الرسمى للقوات المسلحة أكثر من مرة. وإن كان اعتماد مصر على السعودية قيدا ثقيلا على تطور العلاقات المصرية الروسية، وبالتالى قيدا على الابتعاد المصرى عن واشنطن، فإن التعاون الأمنى مع إسرائيل هو قيد أثقل. فما فائدة السلاح، سواء أتى من روسيا أو المريخ، إن كان يستخدم لتأمين جبهة إسرائيل الجنوبية لا لتهديدها. إن جوهر اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل هو أن تبقى سيناء منزوعة السلاح عرضة للغزو الإسرائيلى فيكون ذلك ضمانة أن لا تنتهج مصر سياسة معادية لإسرائيل فى الإقليم. اتفاقية السلام تجعل سيناء رهينة بيد الجيش الإسرائيلى، وارتهان سيناء يعنى ارتهان مصر كلها. وإمعان الحكومة المصرية فى إخلاء سيناء من السلاح بل وتطوعها بخنق غزة لإخلائها منه كذلك هو إمعان فى ارتهان مصر لإسرائيل، وإمعان فى التأكيد على بقاء مصر فى الحلف الاستراتيجى الأمريكى.

 

لقد سمى وزير الخارجية المصرى التقارب المصرى الروسى «رسالة إلى العالم»، وكان يقصد أنه رسالة إلى الولايات المتحدة، مفادها، «إن لم تدفعوا لنا المعونة وتدعموا النظام القائم ربما ذهبنا إلى غرمائكم الروس»، إلا أن مصر كانت توجه فى نفس الوقت، بعملياتها فى سيناء، رسالة أخرى للولايات المتحدة فحواها مناقض لفحوى الرسالة الأولى، تقول فيها الحكومة المصرية لواشنطن «نحن ما نزال حلفاء إسرائيل أمنيا وعسكريا»، فحال الحكومة كحال امرأة تطلب الطلاق من زوجها السيئ لأنه قطع عنها المصروف ثم لا تكف عن إكرامه بالبنات والبنين. لذلك فلا ينخدعن أحد برطانة الإعلام المصرى الرسمى عن الاستقلال الوطنى، فما بقيت اتفاقية السلام مع إسرائيل، وما بقى المال آتيا من المملكة العربية السعودية فليس ثمة مجال للحديث عن أى استقلال.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved