ثورة أكتوبر الاشتراكية وحركة التحرر الوطنى: مصر نموذجًا

محمد عبدالشفيع عيسى
محمد عبدالشفيع عيسى

آخر تحديث: الأحد 19 نوفمبر 2017 - 11:05 م بتوقيت القاهرة

فى الآونة الأخيرة كانت الذكرى المئوية لثورة أكتوبر الاشتراكية لعام 1917 فى روسيا. وبهذه المناسبة كان أول ما تبادر إلى الذهن سؤال: ما الأصل الفكرى لاهتمام ثورة أكتوبر الاشتراكية بحركة التحرر الوطنى؟

ووجدتنى أبدأ هنا بما سطّره ماركس وإنجلز عام 1848 فى (بيان الحزب الشيوعى) حول الوجه المقابل للتحرر الوطنى وهو الاستعمار، حيث يقولان:

«إن اكتشاف أمريكا والطريق البحرى حول شواطئ إفريقيا قدم للبورجوازية الصاعدة ميدانا جديدا للعمل.. حيث أسواق الهند والصين، واستعمار أمريكا، والتبادل مع المستعمرات وتدفق السلع بوجه عام.....»..
ثم يقولان (تُجْبر البورجوازية كل الأمم، تحت طائلة الموت، أن تقبل الأسلوب البورجوازى فى الإنتاج وأن تدخل إليها المدنيّة المزعومة، أى أن تصبح بورجوازية، فهى، بالاختصار، تخلق عالما على صورتها ومثالها».

هذ هو أقدم نّص، فيما يبدو، تناول فيه رائدا «الاشتراكية العلمية» موضوع التوسع القسرى للبورجوازية الأوروبية فى (عالم ما وراء البحار) بصورة مباشرة.

وفيما يبدو، أن السنوات العشر التالية لإعلان «البيان الشيوعى» كانت فترة حافلة فى مسار التكوين الفكرى المتعاظم لكارل ماركس، حيث وجدنا عددا من المقالات والرسائل التى تم تجميعها فى كتاب صادر عن «دار التقدم» فى موسكو باللغتين العربية والإنجليزية بعنوان:
«ماركس،إنجلز فى الاستعمار Marx & Engels on Colonialism».

وفى هذا الكتاب عرض الرجلان، وخاصة ماركس، لعملية التوسع الاستعمارى وعلاقته بنمط الإنتاج البورجوازى، وممارسة الاستغلال التجارى والمالى للبلدين خارج أوروبا، والتى جرى إخضاعها قسرا لهذا الغرض، فى قارتى آسيا (الهند الشرقية تحديدا) وإفريقيا، وكذا العالم الجديد (خاصة أمريكا الشمالية) وبلاد عربية أخرى عديدة. وثمة إشارات عديدة إلى حالة مصر فيما خطّه ماركس وإنجلز عن الاستعمار، وإن شاب بعضها خلط وخطأ، كما فى ملاحظة إنجلز عن أحمد عرابى كمجرد «باشا» كبقية الباشوات. ولكن ملاحظات وشذرات الرجلين عن الجزائر وخضوعها للاستعمار الفرنسى بالقوة القهرية، وعن الهند، وجاوه (إندونيسيا) – وغيرها كثير، ينطق بفهم عميق للمسألة الاستعمارية. بل ونجد جذرا قويا لفهم المسألة الصهيونية – فى إطارها الاقتصادى ــ الاجتماعى، فى كتيب كارل ماركس ــ الشاب ــ «حول المسألة اليهودية» فى وقت مبكر(1843) وهو ابن الخمسة وعشرين ربيعًا.

ورغم ما سبق، فإن العمل الرئيسى لكارل ماركس ــ وهو كتاب (رأس المال) ــ مكرّس أساسا لتحليل الرأسمالية فى عقر دارها، وكانت أبرز النتائج عن «رأس المال»ــ كما خلص إليها ماركس ــ هى التنبؤ بالثورة، الثورة الاشتراكية، تقوم بها طبقة البروليتاريا، حيث أكثر بلد مرشح ومهيأ هى إنجلترا.

وقد صدر المجلد الأول من «رأس المال» عام 1867، وجرت مياه كثيرة قرابة خمسين سنة تقريبا، ليكتشف الماركسىّ الأبرز/فلاديمير إيليتش لينين أن الثورة البرولتيارية التى لم تقم فى عقر دار الرأسمالية – بريطانيا – قابلة للقيام خارج المنظومة الرأسمالية المركزية برمّتها، فى أضعف حلقات النظام الرأسمالى نفسه، فى روسيا حيث نويات الزراعة الرأسمالية والتقدم الصناعى المبكر وطليعة برولتيارية مسلحة بالفكر والحزب.

بعد وفاة لينين ــ القائد المؤسس ــ جاء ستالين متحولا بخط فكرى وتطبيقى مناقض عبر الزمن. وأخذت الستالينية فى التجذر فى العصر لتنسج خيوط التجمّد العقائدى. وجاءت وفاة ستالين عام 1953 ثم انعقاد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعى السوفيتى فى فبراير من عام 1956 وإجراء المراجعات الجذرية عقب ذلك اعتبارا من عام 1957 بقيادة خروشوف، علامات على موقف سوفيتى مخالف للستالينية. 
***
وكانت ثورة 23 يوليه 1952 بقيادة الزعيم جمال عبدالناصر أول اختبار حقيقى لمدى صدق (أو «كذب») الستالينية الدوجمائية. فقد مثلت منذ انبلاجها ثورة وطنية منفتحة على التحولات الاجتماعية، تشقّ طريقا ثالثا بين الرأسمالية الغربية والاشتراكية على النمط السوفيتى.

ورأى السوفيت فى مصر الناصرية – العروبية، قاعدة أكيدة للكفاح ضد الإمبريالية والهيمنة الأمريكية. وبناء على ذلك تم منذ وقت مبكر التعبير عن هذه الرؤية من خلال مواقف عملية ورمزية كبرى، وخاصة عقد صفقة الأسلحة التشيكية مع مصر عام 1955، والوقوف إلى جانب مصر وعبدالناصر فى (معركة بورسعيد) – ولا نقول «السويس» – عام 1956. 

أيد الاتحاد السوفيتى مشروع بناء السد العالى منذ مطلعه عام 1956ــ57 بديلا للبنك الدولى والغرب، وأيد الوحدة بين مصر وسوريا. ولكن خروتشوف كان واضحا أثناء زيارته مصر عام 1964، إذ عبر عن امتعاضه من فكرة «القومية العربية» قائلا ما معناه: إن العلاقة بين العامل المصرى والعامل السوفيتى، أوثق من العلاقة بين العامل المصرى ونظيره الكويتى. بيْد أن «الحزب الشيوعى المصرى» و«الحركة الديمقراطية للتحرر الوطنى» – حدتّوــ لم يقبلا بالرؤية السوفيتية الرسمية، ودفع القادة ثمنا باهظا فى غياهب السجون، وخاصة فى أبى زعبل والواحات. وبعد صدور «الميثاق الوطنى» فى مايو 1962 قام الحزب الشيوعى المصرى بحلّ نفسه، واعترف الاتحاد السوفيتى بذلك.

واعتبارا من 1961 بالذات – عقب قوانين وقرارات التأميم التى أخذت تنهمر تباعا خلال السنوات القليلة التالية – وقف الاتحاد السوفيتى إلى جانب عملية تصنيع مصر، وساعد على إقامة الــ 700 مصنع التى تحدث بها جمال عبدالناصر مرارا، والتى ما زالت شواهدها قائمة رغم خصخصات حقبة (السادات ــ مبارك) لتمثل ربما المعالم التصنيعية الحقيقية (الوحيدة) – تقريبا – على أرض مصر طوال خمسين عاما ويزيد.
***
وكما كان الاتحاد السوفيتى صديقا وفيا لمصر فى معركة التصنيع والتنمية كان وفيا لمصر فى معركة الحرب بعد حرب 1967: حيث إعادة التسليح من نقطة الصفر، وإعادة بناء القوات المسلحة أفراد وكتائب، وإعادة بناء واختبار الاستراتيجيات والتكتيكات بواسطة خبراء الصواريخ. وقامت حرب الاستنزاف، وأعيد بناء الجيش المصرى، ليكون مؤهلا لأول معركة بالصواريخ المحمولة على الكتف، والصواريخ المضادة للطائرات المغيرة، ولو الشبحية، كما فى عملية يوليو 1970 بإسقاط 18 طائرة فانتوم للعدو الإسرائيلى انطلاقا من حائط الصواريخ. ووضعت تلك القيادة مخططا أوليا لعملية عبور قناة السويس فيما سمى بعملية (جرانيت1).

وفارقت الروح الجسد فى 28 سبتمبر 1970، ولكن جمال عبدالناصر ترك جيشا أُعيد بناؤه، وحائطا للصواريخ، وترسانة من الصواريخ المحمولة، وخبرة قتالية لثلاث سنوات ونصف السنة من الاستزاف»، ومخططا أوليا للعبور، وكانت تلك هى القواعد التى انطلقت منها عملية الإعداد المباشر لمعركة العبور عام 1973. 

وبعد أكتوبر 1973 دار الزمن دورته فى مصر والمنطقة العربية، بدون السوفييت. ولكن أثر ثورة أكتوبر الاشتراكية ما زال قويا جليا فى تاريخ العالم والمنطقة العربية ومصر بالذات.. وإلى زمان قادم بعيد. ويبقى أنه لا يصّح إلا الصحيح فيما نرى نحن: خيار الاشتراكية والتطور الديمقراطى والعروبة.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved