ماذا حدث فى الغرب؟

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 19 ديسمبر 2018 - 10:10 م بتوقيت القاهرة

عشت فردا فى جيل منبهر بالغرب وغاضب منه. كنا فى بيوتنا، وأقصد جميع بيوت عائلتنا الممتدة، وفى مدارسنا وجامعاتنا وخلواتنا نرتدى ملابس الإفرنج ونقبل على تعلم لغاتهم ونقلد كثيرا من سلوكياتهم. كنا نتباهى بما حققنا من التقليد وفقدنا من التقاليد. قضينا معظم ساعات الترفيه نقرأ رواياتهم ونشاهد أفلامهم ونسمع موسيقاهم وأغانيهم. كان أقرب أساتذتنا إلى قلوبنا الذين يحاضرون بلغة أوروبية. لكننا لم نهمل لغتنا. كم تسابقنا فى مباريات الخطابة بلغة عربية فصحى وكم من أستاذ لغة عربية جرت ترقيته أو نقله إلى مرتبة أعلى بعد شهادة من مشرف زار فصولنا وتبادل معنا نقاشا مطولا بلغتنا الجميلة حول قصيدة أو أخرى. انبهارنا بالغرب وانضباطنا بالفصل لم يمنعنا من أن نكون فى مقدمة المحرضين على الإضراب للتعبير عن رفضنا وجود الإنجليز على أرضنا. كتبنا ضدهم بلغتهم فى صحف الحائط ولم نقاطع ثقافتهم.
***
شاءت ظروف أن انتقل إلى الهند للعمل هناك ولم يكن قد مضى على تخرجى عامان. وجدت الهنود منبهرين مثلنا بالغرب ولكن أقل غضبا. الغرب فى الهند لم يكن كالغرب فى مصر. الغرب هناك كان إنجلترا ولا شىء آخر. حتى أمريكا لم يهتموا بها إلا قليلا وابتداء بالحرب العالمية الثانية وسير القتال الدائر فى بعض جهات جنوب شرقى آسيا وشرق المحيط الهادى. أفلام لأمريكيين ورواياتهم وثقافتهم الشعبية، الغربية طبعا، لم تلق اهتماما لدى طبقة المثقفين والموظفين كالذى لاقته لدى الطبقة نفسها فى مصر. كان واضحا لغريب مثلى أن الهنود ارتاحوا لكل شىء إنجليزى ولم يرتاحوا لأى شىء فرنسى أو أمريكى أو إيطالى. لا أذكر أنى سمعت فى ذلك الوقت هنديا يتحدث مع أجنبى باللغة الفرنسية أو بأى لغة غربية أخرى. كنت مختلفا. أنا القادم من مجتمع، وبدقة أكثر قادم من شريحة مصرية، شاءت ظروفها الاجتماعية أن تعيش فى وقت تعددت فيه الهويات الغربية فى أهم المدن المصرية وربما جميع المدن المصرية وإن بدرجات متفاوتة من الكثافة والنشاط. لعبت الكرة فى شارع بالسكاكينى ضد فريق الحى ونصف الفريق من الإيطاليين واليونانيين والأرمن. عشت شهورا مع عائلة إيطالية بحى كامب شيزار بالإسكندرية عندما كنت أجرب العمل فى شركة أمريكية تبحث عن النفط غرب الإسكندرية. عندما يأتى المساء كنا المصرى والإيطالى واليونانى والأمريكى نقضى ساعات فى سينما صيفية بحى الإبراهيمية المجاور للحى الذى أقيم فيه، وبعد السينما نتوجه إلى محطة الرمل حيث المطعم الجريجى المحبب إلى نفوسنا يقدم أشهى أطباق ثمار البحر. شىء من هذا لم أجده فى بومباى وكلكتا ونيو دلهى. حتى الإنجليز عندما كانوا حكاما للهند لم يعاشروا الهنود إلا نادرا، ومن بقى منهم فى الهند بعد الاستقلال لم يختلط. فى مصر اختار النساء الزى الغربى فى مرحلة مبكرة من مراحل الاختلاط بالغرب وتحديث مصر خلال حكم الأسرة العلوية. أما فى الهند فقد تعمدت المرأة الاحتفاظ بالزى الهندى ولعلها لم تجد مناسبا أن ترتدى ثيابا غربية بينما الإنجليز حكاما وموظفين فضلوا الانعزال وعدم الاختلاط بالهنود. ففى كل الأحوال سواء ارتدت أو لم ترتد ثيابا أوروبية فإن أحدا فى الجالية الإنجليزية لن يدعوها لبيته أو مزرعته أو قصره الفاخر فى جبال سيملا أو فى وديان مسورى.
المصرى مدين للغرب ككل بالكثير ولإنجلترا بالقليل، أما الهندى فمدين للإنجليز بأكثر مما هو مدين للغرب، وأستطيع القول إنه لا يدين للغرب الأوروبى ولأمريكا بشىء. المصرى مدين للغرب الأوروبى بعمارة القاهرة الحديثة عاصمته والإسكندرية جوهرة ساحله الشمالى. اشتهرنا فى عالم البحر المتوسط بالمدينتين وللحق نعترف أنهما كانتا أجمل مدننا قبل أن تمتد لهما الأيدى الخشنة تهدم الجميل وتشيد القبيح. يستطيع الهندى أيضا أن يفخر بعمارة الإنجليز ولكن أهم دواعى فخره فيما أتصور هو نظام الحكم. لقد ترك الإنجليز للهنود نظاما قضائيا وإداريا يديره عدد محدود من الأفراد. تركوا نظاما للخدمة المدنية لفت أنظار واهتمام كل تلاميذ علم السياسة وإدارة شئون المواطنين. هذا النظام، مع النظام القضائى والقواعد الديمقراطية سمح للطبقة السياسية التى ورثت الحكم فى نيودلهى من التاج البريطانى أن تحافظ على استقرار دولة بعدد سكان لم يحلم المستعمر البريطانى فى أى يوم بأن خليفة له سوف يواجه هذا الرقم الذى يمكن أن ترتعد أمام طلباته وحاجاته أوصال حكام كثيرين فى العالم. لا شك أنه بالنسبة لكثيرين، وبخاصة بالنسبة لمن عاش فى الهند أو درس ظروفها ومذاهبها وعقائدها، فإن استقرار الهند ما زال يمثل معجزة يظل فك طلاسمها أمرا محيرا ومتحديا. يبقى محلا للتساؤل حال مجتمعات عديدة خضعت للاستعمار البريطانى ولم ترث تقاليد وستمنيستر ومبادئ الحرية والديمقراطية وبخاصة مبدأ تداول السلطة فى ظل استقرار وسلام. الواضح أن الهند بسبب تعدديتها الفائقة استطاعت أن توفق بين أفكار الغرب فى الحكم الديمقراطى وأفكار وتراتيب الهند الاجتماعية وعقائدها الدينية ومنها تعددية الآلهة. هذه الأمور لم تكن متاحة فى ظروف مصر والسودان وغانا ونيجيريا وعديد الدول التى خضعت طويلا أو قليلا للاستعمار الانجليزى وجربت تطبيقات تقاليده الديمقراطية.
***
وقعت الصين تحت سيطرة استعمار متعدد الجنسيات والهويات. كان الإنجليز طرفا واحدا بين أطراف عديدين. كلهم من الغرب إلا واحدا وهو اليابان. هناك من يعتبر روسيا خارج الغرب وأنا لست من هؤلاء. كنت تستطيع فى وقت من الأوقات أن تشعر بمدى كره الصينيين للغرب متضمنا روسيا. أما اليابان فكان وما يزال لها فى الصين رصيد من الكره يتفوق حجما وعمقا على الكره المخصص للغرب. هناك وفى أماكن ظاهرة على نواصى شوارع مهمة كنت ترى لافتات بالصينية والإنجليزية وأحيانا الفرنسية والروسية والألمانية تحذر الصينيين والكلاب من دخول أحياء بعينها أو تقترب من سفارات ومدارس غربية. لم يحدث هذا فى مصر من جانب المستعمر الإنجليزى ولكن حدث ما يقترب من هذه الحال من جانب المستعمر التركى والحكام المماليك أيام الإمبراطورية العثمانية. لم يمنع الدين الواحد ممارسة التمييز ضد الوطنيين المسلمين فى مصر وغير مصر فى دول المشرق.
***
كتبت هذه السطور بعد أيام قضيتها متأملا أحوال الغرب الراهنة، وأكثرها أحوال لا تسر عدوا ولا حبيبا. أبدأ بالمملكة المتحدة التى كانت تلقب ببريطانيا العظمى حتى وقت غير بعيد. كنت مسرورا بمتابعة الجدل بين السيدة تيريزا ماى والسيد كولبيرت زعيم المعارضة العمالية. هى الديمقراطية فى أجمل تجلياتها. فجأة سمعت الزعيم العمالى يحذر من أزمة قد تؤدى إلى نهاية الديمقراطية فى بريطانيا. كان للتحذير فى مخيلتى وقع الصدمة. لم أناقش يوما أو أتخيل أو أتصور أن للديمقراطية فى بريطانيا نهاية. تعلمت بالممارسة الشخصية أو بالمتابعة عن بعد أنها يمكن أن تنتهى فى بلاد أخرى. انتهت فى ألمانيا على أيدى هتلر والنازية وفى إيطاليا على أيدى الدوتشى والفاشية، ولم تصمد فى عشرات الدول أمام شهوة السلطة ولكن أيضا أمام تزايد حاجات الناس ونقص الموارد لتلبيتها. وهى الآن مهددة بالسقوط فى دول أعضاء فى الاتحاد الأوروبى وفى حلف الناتو. أكثر من هذا نرى طبقة سياسية فى أمريكا تتلاعب بها غير عابئة بتكلفة هذا التلاعب ونشاهد جماعات هى بالفعل متواطئة مع روسيا أو الصين أو غيرهما لإسقاط الديمقراطية فى واحدة من أهم قلاعها وهى الولايات المتحدة الأمريكية.
***
أقرأ توقعات لبعض مفكرى الغرب عن مرحلة أفول الغرب. يعتقد كثيرون أن الغرب دخلها فعلا وقليلون يأملون فى أن تغيرات جذرية وثورية هى على الطريق لإنقاذه من الأفول وعودته إلى الازدهار والتوسع كالعهد به على امتداد قرون عديدة استطاع خلالها أن ينشر ثقافته ومنها عقيدته السياسية لتصبح ثقافة عالمية وليسجل نفسه صاحبا لحضارة لا يجادل فى عظمتها أحد. سمعت واحدا من هؤلاء القليلين يقول إن الغرب يستطيع تجديد ذاته لأن قواعد حضارته وثقافته تشجعه على التجديد والتغيير والنمو، بينما قد لا تتوفر هذه القواعد فى حضارات شرقية.
الغرب لم يعد الغرب الذى عرفناه، الغرب الذى حاربت دولنا فى صفوف قواته دفاعا عنه وثارت شعوبنا ضد نفاقه وعدوانيته واستغلاله ثرواتنا، الغرب الذى سرنا فى التعليم وأساليب حياتنا على دروبه، هو الغرب الذى تلقينا على أيديه تعاليم الحرية والديمقراطية فأخفقنا فى حفظها أو تطبيقها أو حتى تقليدها. هو الغرب الذى رأيته هذا الأسبوع وأنا أتأمل فى حقيقة ومغزى التطورات فى واشنطن ولندن وبروكسل ووارسو وبودابست وروما وبرازيليا وبيونس آيرس، رأيته مهددا بالسقوط.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved