تغيير الصين أم تغيير النظام الدولى: أيهما أسبق؟

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الخميس 20 يناير 2011 - 9:41 ص بتوقيت القاهرة

 لم يحدث أن شرعت فى قراءة أو كتابة مقال عن الصين إلا وتزاحمت أمام عيناى مشاهد من الصين كما تركتها أول مرة منذ نصف قرن أو ما يزيد.

تزاحمت الصور هذا الأسبوع عندما وقعت فى يدى مقالات عن زيارة روبرت جيتس وزير الدفاع الأمريكى للصين وعن إطلاق الصين مركبة فضائية وإجرائها تجربة على طائرة صينية من طراز الشبح وزيارة الرئيس الصينى للولايات المتحدة.

كنت مع كل تحقيق أو مقال من هذه المقالات أشرد بعيدا فى الماضى، أقارن رغما عنى بين عظمة الانطلاقة الصينية الراهنة لاحتلال موقع مناسب فى قيادة النظام الدولى وبين عظمة انطلاقة الصين فى أواخر الأربعينيات ومعظم الخمسينيات لتحطيم أغلال مرحلة بؤس وشقاء وعبودية.

●●●


وصل الرئيس هو جينتاو إلى الولايات المتحدة أمس الأول فى «زيارة دولة» لمدة يومين. أؤكد على عبارة «زيارة دولة» لأنه فى الزيارة السابقة التى جرت عام 2006 رفض الرئيس بوش رفع مستوى الزيارة من زيارة رسمية إلى درجة زيارة دولة تعبيرا عن غضب أمريكا على الصين. والمعروف أن الفرق بين الدرجتين شكلى بمعنى أن الضيف الذى تستقبله واشنطن فى «زيارة دولة» يحظى بحفل عشاء فاخر فى البيت الأبيض، بينما إن كانت زيارته رسمية، أى عادية، فلن يحصل هو وحاشيته على أكثر من غداء سريع.

تأتى زيارة هو جينتاو هذه فى نهاية مرحلة غلب فيها التوتر على علاقات الدولتين. أما أسباب التوتر فكثيرة وبعضها تفاقم مؤخرا. ولكن ما يدفع إلى ارتياح البعض هو رغبة الطرفين استمرار الحوار للتوصل إلى فهم متبادل لنوايا الطرفين، الواحد تجاه الآخر، ونواياهما تجاه مستقبل النظام الآسيوى وخطط الدفاع عن المحيط الهادئ.

يتفق المتخصصون فى الدولتين على أن نقاط الخلاف المعلنة لا تخرج عن المجالات الآتية: التجارة وقيمة العملة ومبيعات السلاح الأمريكى إلى تايوان وقضية التيبت والمناورات البحرية الأمريكية فى المياه القريبة ومشكلات كوريا الشمالية ومسائل الحريات وحقوق الإنسان، إلى جانب ما ينشأ بين الحين والآخر من مشكلات بسبب الخلافات بين الصين ودول فى جنوب شرقى آسيا حول بعض الجزر فى بحر الصين الجنوبى وبين الصين واليابان حول جزيرتين فى بحر الصين الشرقى. أما ما خفى من أسباب فهو بالتأكيد أعظم شأنا.

●●●


قبل أيام من بدء زيارة الرئيس الصينى للولايات المتحدة قام روبرت جيتس وزير الدفاع الأمريكى بزيارة للصين دامت ثلاثة أيام بعد ثلاثة أعوام من توتر العلاقات بين المؤسستين العسكريتين الصينية والأمريكية.

جاءت زيارة جيتس بهدف معلن وهو رغبة الجانب الأمريكى فى إقناع الصينيين بوقف التعتيم المفروض على عملية تطوير القوات المسلحة الصينية وضخامة الميزانيات المخصصة لهذا التطوير، وبانتهاج الشفافية فى العلاقة بين المؤسستين العسكريتين فى الدولتين.

تصادف، أو لعله كان مقصودا، أن بثت محطة تليفزيونية محلية فى إحدى المقاطعات النائية فى الصين شريطا عن تجربة أجريت فى قاعدة عسكرية بالمقاطعة لإطلاق سفينة فضاء صينية مزودة بأسلحة مضادة للأقمار الاصطناعية وقادرة على البقاء فى الفضاء لمدة طويلة، أى شهورا متصلة، وقادرة فى الوقت نفسه على إصابة أهداف على الأرض أو البحر بدقة متناهية. وفجأة، وقبيل وصول جيتس إلى الصين، اختفى الشريط من شبكة الإنترنت واختفت أخباره من الصحف ورفض حاكم المقاطعة الذى شهد إطلاق السفينة الإدلاء بأى تصريح يؤكد أو ينفى وجود الشريط ونجاح أو فشل التجربة. وفى اليوم نفسه تسربت أنباء عن تجربة أجرتها الصين على طائرة جديدة من طراز الشبح، وعندما اجتمع جيتس بالرئيس الصينى وفى حضور وزير الدفاع تعمد جيتس أن يسأل الرئيس عن الطائرة سعيا وراء معرفة مناسبة الإعلان عنها، وهنا وقعت المفاجأة التى أذهلت جيتس والحاضرين وما زالت محور اهتمام الإعلام الغربى، إذ استدار الرئيس الصينى ناحية وزير دفاعه ليستفسر عن الموضوع، الأمر الذى أوحى للجميع أن رئيس الدولة فى الصين لا يشترك فى صنع قرار على هذه الدرجة من الأهمية. ومنذ تلك اللحظة يدور فى الأوساط الأكاديمية والسياسية الأمريكية جدل مكثف حول عملية صنع القرار فى الصين، هذه الدولة الصاعدة نحو مواقع العظمة مزودة بأحدث الأسلحة وبإستراتيجية للحرب الفضائية وطموحات لم ترق إليها طموحات دولة أخرى منذ أن استعدت الولايات المتحدة لإزاحة الإمبراطوريات الغربية لتحل محلها.

●●●


يبدو واضحا أن مراكز القرار فى الصين متعددة إلى الحد الذى يجعل من الصعوبة بمكان على محللى السياسة الخارجية ومخططيها فى دول الغرب الإحاطة بما يدور فى هذه المراكز، ولكن الأخطر بالنسبة لهؤلاء كما يقولون هو أنها تجعل من الصعوبة بمكان الاطمئنان إلى أن ما يقع الاتفاق عليه مع حكومة الصين سوف يجد طريقه إلى التنفيذ حسب ما اتفق عليه. ويضرب الأمريكيون المثل بما لم ينفذ مما جرى الاتفاق عليه خلال زيارة أوباما فى عام 2009 إلى الصين.

غريب فى نظرهم أمر القائمين على حكم الصين، ففى حين لا يستطيع الغرب معرفة مصير اتفاق يفكر فى عقده مع الصين وفى حين لا يعرف الدبلوماسيون الغربيون مع من يمكنهم التحدث فى شأن من الشئون التى تهم أمن ورخاء الطرفين، يعرف الغرب بالدقة والتحديد من سيكون الرئيس القادم لجمهورية الصين الشعبية وفى أى يوم وأى سنة، وهى بالمناسبة عام 2012.

يعرفون بالتأكيد أن الرئيس الحالى هو جينتاو لن يخلد فى منصبه وأن الرئيس القادم جرى انتخابه علانية ويجرى الآن إعداده لمسئوليات الرئاسة، ومن ورائه صف من القادة من ذوى الأعمار المتوسطة يتدربون استعدادا ليوم يطرحون أنفسهم أو تطرحهم، جهة ما فى الصين، مرشحين للرئاسة أو ما دونها.

واحد من هؤلاء تابعت زياراته فى ألمانيا وبريطانيا وإسبانيا الأسبوع الماضى كما تابعت خطبه وتصريحاته وإجاباته العفوية على أسئلة الصحفيين الأوروبيين.

تابعته وهو يساوم الأوروبيين على إنقاذ اليورو أسوة بما تفعله بلاده لدعم الدولار، وبالفعل بدأ بإسبانيا التى حصلت بعد مفاوضات مثيرة على صفقة اشترت الصين بمقتضاها سندات حكومية بمبالغ كبيرة.

●●●


كشفت تطورات العام الفائت عن تطور مذهل حققه النظام السياسى الصينى. لم تعرف الصين فى تاريخها الحديث تعددية فى مراكز صنع القرار. ففى مرحلة انفرد تشيانج كاى شيك رئيس الدولة ورئيس حزب الكومينتانج بالقرار، وفى مرحلة أخرى انفرد به الرئيس ماوتسى تونج، وفى مرحلة ثالثة انفرد به دنج شاو بنج الرئيس الذى أطلق عهد الانتقال من الانغلاق إلى الانفتاح الاقتصادى. وأعتقد أن المؤرخين سوف يتوقفون طويلا عند عام 1997 كتاريخ الانتقال من مركزية القرار فى الصين إلى تعددية مواقع اتخاذه.

يبدو هذا التطور للوهلة الأولى معقولا بالنظر إلى أن الحزب الشيوعى الصينى يضم حوالى ثمانين مليون عضو ينتشرون فى أنحاء شاسعة، وبالنظر إلى أنه لم يكن يوما حزبا كرتونيا، حسب وصف المصريين لأحزابهم السياسية، بل كان بوتقة صهر لقوميات شتى بل ومفاعل أنتج كفاءات سياسية مبهرة.

يجمع بين الثمانين مليونا مزيج أيديولوجى المكون الأساسى فيه هو القومية الصينية. ففى الوقت الذى كان ماوتسى تونج يحرم رفع شعارات قومية كان يستخدم بكثافة جوانب معينة من التاريخ القديم فضلا عن أنه اعتمد الولايات المتحدة عدوا أول وخطرا أعظم يهدد سلامة الصين ووجودها.

ما يحدث الآن هو انحسار التركيز على المكون الاشتراكى وتصعيد التركيز على المكون القومى، الآن يعود التاريخ الصينى ليحتل مكانة متقدمة جدا فى البناء الثقافى للصين الحديثة، وتحظى الانجازات العلمية والعسكرية والاقتصادية بما تستحقه من إشادة وتمجيد فى الإعلام الرسمى والتربية الحزبية، هذا بالإضافة إلى السياسة الثابتة بخصوص استخدام الشكوك المتأصلة لدى الشعب الصينى فى نوايا الولايات المتحدة واليابان.

●●●


أولى الأدميرال مايك مولين قبل أيام من بدء زيارة الرئيس الصينى لأمريكا بتصريحات جاء فيها أن الصين تستثمر أموالا طائلة فى قطاعات تكنولوجية متفوقة للغاية، ويقول إن ما يهمنا كأمريكيين هو أن نعرف لأى غرض تركز الصين على الاستثمار فى هذا المجال.

أستطيع فهم القلق الذى يبدو واضحا فى تصريحات هذا القائد العسكرى وغيره من المسئولين الأمريكيين بشأن تصاعد قوة الصين، وبالأخص تصاعد لهجة التحدى فى الخطاب السياسى والاستراتيجى الصينى.

قليلون الذين ينكرون أن الفجوة التى تفصل الصين عن الولايات المتحدة تضيق عاما بعد آخر، لكن الأهم بالنسبة لصانعى السياسة فى أمريكا هو السرعة التى تضيق بها هذه الفجوة والسرعة التى يجرى بها انتقال مركز الثقل الاستراتيجى فى العالم من الأطلسى إلى الهادى. وما زال الكثيرون فى أمريكا، وبخاصة داخل الكونجرس يحلمون بمواجهة طويلة مع الصين أسوة بالمواجهة التى نشبت مع الاتحاد السوفييتى على امتداد ثلاثين عاما أو أكثر وحققت رخاء ملموسا فى الاقتصاد الأمريكى وتوسعا فى النفوذ السياسى لأمريكا فى الخارج. آخرون يطالبون حكومتهم وحكومات أوروبا بتكثيف جهودهم لإجبار حكومة بكين على إدخال تغييرات جوهرية فى نظام الحكم والقوانين الداخلية وأخلاقيات السياسة ومناهج الاقتصاد فى الصين.

●●●


يجتهدون فى الغرب وأمريكا خاصة لابتكار أساليب تعجل بالتغيير السياسى الداخلى فى الصين. ويجتهدون فى الصين لابتكار أساليب تعجل بالتغيير فى توزيع القوة وقواعد العمل فى النظام الدولى. من يسبق من؟ هل تسبق أمريكا فتنجح فى تغيير النظام الصينى قبل أن يتغير النظام الدولى أم تسبق الصين فتحقق حلم تغيير النظام الدولى لصالحها وصالح دول الجنوب قبل أن تتغير الصين من الداخل..؟

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved