عواطف صحفية

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 20 مارس 2013 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

أتعمد وأنا فى الخارج أن أصل إلى المطار قبل موعد إقلاع الطائرة بساعتين أو ثلاث أملا فى أن تتاح لى فرصة كافية لقراءة مواد واجبة الاطلاع اصطحبتها معى أو وقعت عليها فى الصحف العالمية التى يندر الحصول عليها فى مكان واحد غير مطار كبير.

 

قبل أيام وخلال انتظار فى أحد هذه المطارات الكبيرة توقفت كعادتى أمام خزينة الصحف والدوريات لألتقط بعضا منها. جمعت، فيما جمعت يومها، صحيفة من هونج كونج وثانية من الهند وثالثة من إيطاليا ورابعة من الأرجنتين. كلها، وكثير غيرها من الصحف المعروضة، تزينت صفحاتها الأولى بصورة كبيرة للبابا فرانسيز الأول، الرئيس الجديد للكنيسة الكاثوليكية، والشخص الذى أثار انتخابه تعليقات وتنبؤات لم يثرها انتخاب بابا آخر. رأيت العناوين وقد كادت تتطابق، لم يمنع تطابقها سوى فروق التوقيت بين مواعيد إصدار الصحف، إحداها صدرت قبل أخرى بست ساعات، وثالثة صدرت بفارق زمنى عن أبعد واحدة منها تجاوز الاثنتى عشرة ساعة.

 

•••

 

طلبت مشروبا باردا ورتبت أوضاعى على الأريكة المريحة والمائدة الملحقة بها وتأكدت من أن الشاحن يعمل والطاقة موصولة بالأجهزة التى لم نعد نسافر بدونها. أمسكت بالصحيفتين اللتين تجاوز اشتياقى لهما شوقى لصحف أخرى أوسع سمعة أو أكثر توزيعا. أمسكت بصحيفة ساوث تشينا مورنينج بوست التى تصدر فى مدينة هونج كونج وصحيفة تايمز أوف أنديا التى تصدر فى دلهى عاصمة الهند. بدأت بالصحيفة الصينية.

 

•••

 

متعة لا تعادلها متعة أن تلمس أناملك صفحات صحيفة ربطتك بها علاقة قبل عقود. تغيرت الصحيفة فى بعض تفاصيلها ومعالمها، ولكن أمرا ما جعلنى لا أدقق فى هذا التغيير أو أتأثر به. هناك أشياء فى الصحف لا تتغير مهما طال الزمن وتغير الصحفيون وتغير القراء. أعرف أن بعض كبار الصحفيين يعترض على رأى قلته مرارا وأكرره هنا. هناك أشياء فى الصحيفة لا نراها بالعين المجردة. هذه الأشياء لا تتغير، يحس بها كل من كانت له علاقة «خاصة» بالصحيفة. قلتها من قبل وأقولها مرة أخرى، الصحيفة تولد وتزدهر وتنحدر ولكن تبقى روحها دائما حية فى انتظار بعث جديد.

 

•••

 

قرأت فى الصحيفة الصينية أخبارا تشير إلى انشغال بكين بترتيبات الرئاسة الجديدة وتحقيقات جريئة لم أعهد مثلها فى الصحافة الصينية، ومنها تحقيق مزود بالصور عن المثليين فى دول جنوب آسيا وتمردهم على ثقافات أوطانهم وتقاليدها، ومقالات رأى تناقش «أم المشكلات» فى الصين وهى الفجوة الاجتماعية الناتجة عن تفاوت الدخول واستمرار الهجرة من غرب البلاد إلى شرقها. هذا الاهتمام بمناقشة المشكلات الداخلية تترك الانطباع بأن الصين خطت خطوات واسعة على طريق حرية الرأى والتعبير. تعرفت على هذه الصحيفة عندما كانت تصدر فى هونج كونج لتنطق بلسان الغرب والرأسمالية ضد النظام الشيوعى القائم فى بكين. وها أنا أراها، وما زالت تصدر فى المدينة نفسها، تنطق بلسان رأسمالى ــ اشتراكى ــ وطنى متفهمة المزيج الأيديولوجى الذى أبدعت فى صنعه ثورة التحديث فى أواخر السبعينيات.

 

تعرفت عليها فى زمن الحديث المتكرر عن المؤامرات التى يخطط لها ويديرها الأعداء الغربيون فى الدول الامبريالية ضد النظام فى الصين. كانت تسخر من دعاة الفكر التآمرى الذين تزخر بهم الحكومة الشيوعية فى بكين. رأيتها هذه المرة تشارك فى تنفيذ خطة توعية المواطن الصينى. تحذره من خطورة المؤامرات التى يخططها ويديرها الأمريكيون للإضرار بالصين. تأكدت شكوكى، فالسباق الذى بدأ ناعما بين الصين والولايات المتحدة فى الثمانينيات صار أقل نعومة ويتوجه بسرعة غير عادية نحو مرحلة خشونة.

 

•••

 

عادت الصين تنصح رعاياها بضرورة توخى الحذر فى التعامل مع مواطنى وشركات الدول الغربية وبخاصة الولايات المتحدة. تقول الصحيفة فى مكان بارز إن إدارة الأمن الوطنى قررت فتح التحقيق فى التهم الموجهة إلى شركة كوكاكولا للمياه الغازية بالتجسس على مواقع استراتيجية باستخدام آلات الرصد والمساحة الإلكترونية وتثبيتها على خريطة الأقمار الاصطناعية لترتبط بشبكة إطلاق الصواريخ بعيدة المدى وقواعد توجيه الطائرات بدون طيار، الدرون. تدافع الشركة عن نفسها بالقول إنها بالفعل تجبر موظفيها على حمل هذه الآلات واستخدامها «ليستوثق كبار المسئولين فى الشركة من التزام الموظفين بالمهمات المكلفين القيام بها فى أنحاء متفرقة من بعض المدن الصينية. الغرض هو التأكد من أنهم لا يقضون أوقاتهم فى أماكن أخرى فضلا عن أنها وسيلة ممتازة لتوفير استهلاك البنزين».

 

هذا الدفاع لم يقنع المسئولين فى إدارة الأمن الوطنى، فالمناطق التى استهدفتها شركة كوكاكولا صناعية وعالية الإنتاج وهى من أغنى مناطق الصين. كذلك كان واضحا من قراءة رسائل القراء أن هذا الدفاع من جانب الشركة الأمريكية لم يقنع الرأى العام المتشكك عبر القرون فى نوايا الرجل الأبيض. الأمر نفسه تكرر بحذافيره فى الصحف الأمريكية التى علقت على دفاع الجيش الصينى عن اتهامه بأنه اخترق الشبكة الإلكترونية للبيت الأبيض الأمريكى وتجسس على مواقع حساسة أخرى فى الولايات المتحدة، فدفاعه لم يقنع المسئولين الأمريكيين ولا الرأى العام الأمريكى.

 

•••

 

طلبت مزيدا من الشراب البارد تاركا الصحيفة الصينية ترتاح على حجرى.. وسرحت فى زمان غير هذا الزمان، وفى مطار غير هذا المطار ولكن مع الصحيفة نفسها. كان آخر ما قرأته فيها صباح يوم بعيد جدا، وقبل أن استقل الطائرة التى ستقلنى إلى الوطن، نصيحة فى ركن «حظك هذا اليوم» لمواليد برجى بتجنب السفر جوا هذا اليوم. سافرت.. وصدقت نبوءة الفلكى. لم يكن اليوم مناسبا لسفرى بالطائرة.

 

•••

 

وضعت الصحيفة جانبا. جرعت ما تبقى من شرابى ونهضت واقفا وعيناى لا تفارقان الصحيفة التى تكومت مع رفيقاتها عند ركن فى الأريكة. جررت حقيبتى متوجها إلى الطائرة تغمرنى سعادة فائقة، سعادة من التقى بصحيفة.. كان يعرفها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved