قولوا بريزنيسكى.. ولا تقولوا شيخ الأزهر

عبد العظيم حماد
عبد العظيم حماد

آخر تحديث: الخميس 20 أبريل 2017 - 10:20 م بتوقيت القاهرة

بعد مأساة 11 سبتمبر الإرهابية فى نيويورك وواشنطن سئل زيبنيو بريزنيسكى مستشار الأمن القومى فى إدارة الرئيس الأمريكى الأسبق جيمى كارتر: ألا تشعر بالندم؟و متى تعترف بخطأ إقدامك على تشكيل جيش المقاتلين الإسلاميين ضد الاحتلال السوفيتى لأفغانستان، وتدريب هذا الجيش وتمويله وتسليحه بعد أن استدار هذا الجيش ليقاتل الولايات المتحدة؟

أجاب بريزنيسكى: لا ندم.. وليس هناك خطأ لأعترف به، فماذا يساوى وجود بضع مئات من المقاتلين المسلمين المتشنجين إلى جانب إسقاط الاتحاد السوفيتى، وتحرير أوروبا الشرقية من هيمنته، وتحرير أوروبا الغربية من تهديده؟!
كان مغزى مساءلة الرجل الذى أسس الائتلاف الدولى للجهاد فى أفغانستان من الولايات المتحدة، ومصر، والسعودية، وباكستان، ومن يرغب، أو على الأصح كان مغزى توجيه اللوم إليه فى صيغة سؤال وهو أن خطته ــ التى نجحت فى أفغانستان ــ هى التى حولت الإرهاب «الإسلامى» من سلسلة من المجموعات القطرية محدودة العدد والإمكانيات ومنهمكة فى الصراعات الداخلية فى بلادها إلى شبكة عالمية، كثيفة العضوية، عالية التدريب، وفيرة الموارد، والأهم من ذلك أن أهدافها السياسية لم تعد قطرية، بل اتسعت لتصبح إقامة دولة الخلافة الشاملة على امتداد العالم الإسلامى كله، بما ينطوى عليه هذا الهدف من صراع دام وحتمى مع جميع القوى الأخرى فى العالم، لاسيما تلك التى تناهض أو ستناهض مشروع «إعادة مجد الإسلام»، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية بطبيعة الحال.
وكان مغزى إجابة بريزنيسكى بأنه لا خطأ هناك يستحق الندم، لأن الخطأ جاء بعد ذلك من إدارتى الرئيسين الأمريكيين التاليين، وهما رونالد ريجان، وجورج بوش الأب.
أما خطأ إدارة ريجان فيتمثل فى التنكر للشعب الأفغانى، «وللمجاهدين» هناك سواء كانوا من أهل البلاد، أم المتطوعين الذين جندهمو دربهم وأرسلهم الائتلاف الأمريكى المصرى السعودى الباكستانى، وذلك بمجرد أن أقر السوفييت بهزيمتهم، وسحبوا قواتهم من الأراضى الأفغانية، فلم توضع خطة، ولم يبذل جهد ــ ولو ضئيلا ــ لإعادة اعمار أفغانستان، وإعادة تأهيل المجاهدين السابقين للعودة إلى الحياة العادية، وكان هذا التنكر المتعمد يستهدف ترك هؤلاء المسلحين لكى يصفى بعضهم بعضا، باعتبار أن هذه هى أرخص طريقة للتخلص منهم.
وما حدث بعد ذلك معروف فقد اندلعت الحروب الأهلية فى كل أفغانستان، وانقشع غبار هذه الحروب فى نهاية المطاف عن استيلاء حركة طالبان المتطرفة على البلاد كلها، لتتيح الفرصة لحلفائها من المجاهدين العرب لتشكيل تنظيم القاعدة التى تبنت عقيدة الجهاد على مستوى العالم كله لإقامة الخلافة الإسلامية العظمى، وكما نعرف أيضا فقد تطور مشروع القاعدة إلى مشروع داعش.
ومن أخطاء ريجان أيضا التى حفزت «الإرهاب» الاسلامى، تنكره لمنهج إدارة سلفه كارتر فى مواصلة عملية السلام العربية الإسرائيلية التى كانت قد بدأت فى كامب ديفيد، ثم تأييده الوقح للغزو الإسرائيلى للبنان، وصولا إلى بيروت عام 1982، وهو ما أشعر «المجاهدين» ليس فقط بتنكر حليفهم وراعيهم الأمريكى لهم، بل بخيانته، وانقلابه على المسلمين فى فلسطين ولبنان.
وعلى الرغ من أن بوش الأب ــ الذى خلف ريجان فى البيت الأبيض ــ حاول بنجاح أن يستدرك خطأ سلفه فى لبنان وفلسطين، فأحيا عملية السلام، واعترف بمنظمة التحرير الفلسطينية، وعقد مؤتمر مدريد للسلام فى الشرق الأوسط، فإنه كان قد قام بمحاولة غزو فاشلة للصومال «المسلمة» تحت علم الأمم المتحدة، منتهزا فرصة انهيار الاتحاد السوفيتى، وانتهاء الحرب الباردة، ليدشن ــ كما توهم ــ عصر الهيمنة الأمريكية المنفردة على العالم، تحت مسمى النظام العالمى الجديد، كما أنه أيد ومعه كل الدول الأوروبية الغربية الانقلاب العسكرى الذى حرم «الإسلاميين» فى الجزائر من فوز انتخابى مستحق، وهكذا رأى «المجاهدون» ــ الذين كانوا قد انتشروا فى كثير من الدول الإسلامية ــ أنهم تعرضوا لخيانة أمريكية جديدة حسب فهمهم، فانطلقوا ينتقمون من الأهداف الأمريكية فى كل مكان، فى دار السلام فى تنزانيا، وفى مومباسا، وفى الخرطوم، وعلى سواحل اليمن، والصومال، وفى باريس ولندن، وصولا إلى هجمات 11 سبتمبر و2001، وما بعدها حتى اليوم، والغد، خاصة بعد أن توافرت لهم قيادة جديدة تتمثل فى داعش، الأكثر تطرفا، والأشرس عنفا وإرهابا، علما بأن ظهور داعش نفسه هو إحدى النتائج المأساوية للغزو الأمريكى للعراق، ولخطايا الإدارة الأمريكية للشأن العراقى بعد الغزو، وأبرزها حل الجيش العراقى، وتسليم السلطة لغلاة الشيعة المتحالفين مع إيران، فى إطار نظام المحاصصة الطائفية.
خلاصة هذا العرض المستطرد هى أنه لا الخطاب الدينى، ولا الأزهر، ولا مناهجه، ولا شيخه، ولا حتى جماعة الإخوان المسلمين، ولكنها السياسة الأمريكية هى الفاعل الأصلى فى تأسيس ظاهرة الإرهاب «الاسلامى» كظاهرة عالمية لها امتداداتها وتأثيراتها فى كل مكان، وصولا إلى سيناء.. وطنطا والإسكندرية أخيرا، ولها أهدافها الصغرى، وتكتيكاتها المتحورة حسب الظروف، سعيا وراء الهدف الأكبر، وهو السلطة فى أكبر عدد من الدول الإسلامية، للانضواء تحت لواء الخلافة الداعشية، وذلك ابتداء من أفغانستان فى عهد كارتر وبريزنيسكى، وهنا لا أتحدث عن مؤامرات بالمعنى الساذج الذى يصدقه بعض مواطنينا، مثل القول بأن المخابرات الأمريكية هى التى أسست داعش، وأن أبا بكر البغدادى الخليفة الداعشى يهودى متخف يعمل لحساب إسرائيل!!
ماذا يعنى الإقرار بهذه الحقيقة فى سياق البحث عن استراتيجية ناجعة للقضاء على هذه الظاهرة عالميا وقطريا؟
المعنى المباشر هو ضرورة مواجهة إدارة دونالد ترامب الجديدة فى الولايات المتحدة التى تضع هزيمة «الإرهاب الاسلامى» على رأس أولوياتها بهذه الحقائق، حتى لا تندفع فى اتجاه العمل العسكرى غير المرتبط عضويا باستراتيجية شاملة، تتضمن الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية دوليا وإقليميا وقطريا، خصوصا أن بضع المئات من المسلمين المتشنجين الذين اعتقد بريزنيسكى أن وجودهم يعتبر ثمنا رخيصا لاسقاط الاتحاد السوفيتى والشيوعية، صاروا عشرات الألوف، ويمكن أن يزيدوا إلى الملايين، ما لم يكافحهم العالم بالاستراتيجية الصحيحة، التى يجب أن تنطلق من إصلاح أخطاء الماضى، فى نفس الوقت الذى يجب أن تمارس فيه أقصى الضغوط العسكرية على الشبكات الإرهابية، وكذلك حصارها اقتصاديا، واختراقها مخابراتيا، وفى هذا السياق من تجديد الخطاب السياسى محليا وعالميا، يمكن توقع نتائج إيجابية للخطاب الدينى المستنير.
إصلاح أخطاء الماضى، يجب أن يتمثل فى وضع معايير دولية ملزمة للحكم الرشيد فى الدول الاسلامية، وسيتأتى عنصر الإلزام لهذه المعايير من ارتباطها عضويا بمشروع موسع للتنمية والإعمار فى الدول التى يضربها الإرهابى، وتلك التى ينطلق منها الإرها، تماما مثلما جرى فى دول أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، إذ لولا مشروع مارشال مقرونا بالحكم الرشيد لسقطت هذه الدول تباعا فى فلك الشيوعية من داخلها، وليس بالاحتلال السوفيتى.
الحكم الرشيد يعنى تحسين مستويات المعيشة، والتعليم، وكبح الفساد، والمشاركة السياسية، وتداول السلطة سلميا، وخضوعها للمساءلة، واحترام حقوق الإنسان، وقيم المواطنة، والمساواة أمام القانون، وبذلك تتضاءل جاذبية التنظيمات الإرهابية للساخطين والمهمشين حتى تنعدم تماما.
أما الشق الثالث من هذه الاستراتيجية المقترحة، فيجب أن يكون التسوية العادلة للقضية الفلسطينية، لأن هذه القضية تبقى بعد كل شىء، وقبل كل شىء هى المصدر الدائم للتناقض والصراع بين العرب والمسلمين من جانب، وبين الولايات المتحدة والغرب عموما من جانب آخر، كما أنها سبب فى إفقاد الحكومات العربية العاجزة أمام التجبر الإسرائيلى احترام مواطنيها، بما يؤدى اليه ذلك من تحفيز الجهود لتغيير هذه الحكومات، ولو بالوسائل الإرهابية، ولذا فإن أية حلول التفافية لهذه القضية، لن تفيد فى مكافحة الإرهاب، بل قد تصبح سببا فى ظهور أطوار جديدة منه، فى حين أن الحل العادل للقضية الفلسطينية يمكن أن يكون مدخلا لاقامة نظام للأمن الجماعى فى الشرق الأوسط، يتكامل مع الحكم الرشيد والتنمية لخلق شرق أوسط جديد، خال ليس فقط من الإرهاب، ولكن أيضا من الحروب الأهلية، والصراعات الإقليمية والدولية.
هل يتوقع من إدارة ترامب أن تتبنى هذه الرؤية، فتشكل إئتلافا إقليميا ودوليا يصنع السلام والتنمية والحكم الرشيد فى الشرق الأوسط، ويمحو النتائج المأساوية لإئتلاف بريزنيسكى؟
بصراحة لا يوجد دليل واحد يرجح كفة التفائل، بما أن الحديث يجرى حاليا عن صفقة القرن، والتحالف السنى، ضد إيران وامتداداتها الشيعية، مع تخويل اسرائيل دورا بارزا فى الصفقة والتحالف.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved