مرايا الموت.. فى نقد مدائح الأساتذة الراحلين

عماد عبداللطيف
عماد عبداللطيف

آخر تحديث: الخميس 20 أبريل 2017 - 10:40 م بتوقيت القاهرة

أينما ولّى الموت وجهه، فلن يجد مهابة وتقديرا مثل ذاك الذى يحظى به من المصريين. فقد بنوا حضارتهم كاملة فى خدمة السيد ذى المنجل؛ فكانت أبنيتهم العظيمة بيوتا للموتى، ورسومهم المذهلة نقوشها، واختراعاتهم الرائعة فى خدمة الأرواح الراحلة، وكتابهم الأقدس هو كتاب موتاهم. بالطبع لم يكن الموت فى ذاته غاية إبداعات المصريين؛ فقد كان مبتغاهم تحصيل السعادة فى حياة عالم ما بعد الموت، الذى شيّدوه بتفصيل منمّق حفّز سرديات العالم الأخروى فى ثقافات عدّة (كالعبرانية) على الاهتداء به، وتقليده. لكن احترام الموت والموتى، ظل عقيدة راسخة، تجلت عبر الأفعال والأقوال عبر القرون.
«اذكروا محاسن موتاكم»، و«لا يجوز على الميت إلا الرحمة»، عبارتان شائعتان فى سياق الحياة المعاصرة. وعادة ما يُستعملان لتصحيح مسار حديث ما، باتجاه قصر حديث الأحياء عن الأموات على محاسن الراحلين. وقد أخلص المصريون لهذه النصيحة المصوغة فى شكل أمر قاطع؛ فتحدثوا عن فضائل الراحلين، وسكتوا عن مثالبهم.
***
قد يبدو هذا الحرص على تنقية ثوب الراحلين من الخطايا، حيلة حكيمة؛ غايتها تنقية المجتمع من شروره، بواسطة دفنها مع مقترفيها، فلا يبقى على قيد الحياة، إلا قصص الخيرين. وذلك على نحو ما سلك الشعر العربى، حين ألبس الممدوحين ثياب الفضائل جميعا. لكن ثمن هذه الحكمة يبدو باهظا، حين نتجاوز السكوت عن خطايا الراحلين إلى اختراع الأكاذيب. فقد يكون من المفيد الصمت عن البقع السوداء فى ثوب من لم يعُد يخطو فوق أديم الأرض، غير أنه من الخطر خلع جلباب حياته كلية، وإلباسه ثوب النقاء الثلجى الأبيض.
لقد أسس البشر حضارتهم لأنهم ــ وحدهم من بين جميع الكائنات ــ وعوا درس التاريخ. فقيمة الماضى الحقيقية إنما تكمن فى التعلم من أخطائه، وسيصبح التاريخ بلا أدنى فائدة ــ كورقة متسخة ــ إذا أصررنا طوال الوقت على تزييفه حرصا على «ذكرى الراحلين». فالموت يجب ألا يكون سكينا معنويا يقطع لسان النقد والانتقاد، ولا خيطا غير مرئى لأفواه المتأملين. يجب ألا يكون الموت وحده صك قداسة، يحصل عليه الراحلون، وإلا فإننا سنضفى مشروعية على الأخطاء والخطايا، ونُطمع مرتكبيها بأنها ستُنسى كلية مع آخر نفس.
لقد ترددت هذه الأفكار فى ذهنى على مدى السنوات الماضية، كلما رأيتُ كيف يجعل جلال الموت البشر يتهافتون على كيل المدائح المطعمة بالأكاذيب. وتزداد جرعة الأكاذيب، وتتوارى الحقائق، حين يكون الحديث على شاشة تلفاز أو ورق صحيفة، فيتحول الراحل إلى ملاك لا بشر، مر فوق حياتنا محلّقا بأجنحة أسطورية، ولم تطأ قدمه أبدا أوحال الأرض! وسرعان ما تتشكل شخصية جديدة، عبر الحكى الجديد، فى حين تستمد الجرائم والخطايا المرتكبة قوة جديدة بفعل العيش فى الخفاء.
***
سأستشهد على مخاطر إعادة خلق شخصيات الراحلين بحكايتين. الأولى لأستاذ مرموق فى إحدى الجامعات العربية. ترك دراسات متميزة مؤثرة وأصيلة، وكثيرا ما سمعت حكايات شتى عنه من زملائه، وطلابه، تمتدح علمه، وكرمه، وحرصه على مساعدة طلابه. وكان مما حكاه أحدهم أن هذا الأستاذ كان يقوم بدور الوسيط بين بعض طلابه القادرين ماليا، الراغبين فى الحصول على درجة علمية، وطلاب فقراء يُشرف عليهم، يُكلفهم بكتابة رسائل جامعية، فى مقابل أموال يدفعها الطلاب المقتدرين. كان من الطبيعى أن تصعقنى مثل هذه الحكايات؛ فلا يمكن تخيل فساد أكاديمى أكبر من أن يقوم أستاذ بالإشراف على طالب أو طالبة، فيكلف طالبا آخر يشرف عليه أيضا بكتابتها، ثم يناقش مشترى الرسالة، ويمنحه الدرجة العلمية! فحتى لو افترضنا أن الأستاذ يكتفى بدور الوسيط، وأنه لا يقبض من الطالب الغنى ثمن «خدمته»، فإن هذا الفعل يذبح أخلاق البحث العلمى بسكين مثلوم، ويُفسد على نحو قاطع أخلاق الاثنين.
لقد تابعتُ ما كُتب عن الأستاذ الراحل إثر وفاته، ورأيتُ كيف صُنعت صورة أسطورية لملاك مجسّد. لم تكن هناك إشارة واحدة إلى فعل، أو قول، اختلف فيه أحدهم معه. لم تكن هناك أبدا عبارة «لكن»، أو «ربما كان من الأفضل لو أن...». وستمر السنوات، وتتغول النفوس الفاسدة التى صنعها فى الحياة، ويصبحون بدورهم أشخاصا نافذين، ويقومون مرة بعد أخرى بإفساد آخرين، ثم يُعطى الموت للجميع صك النسيان. هذه الحكاية تتكرر أمامى بحذافيرها حينا بعد حين. وسأذكر واحدة أخرى لعلها تجسد مأساة أسطرة الراحلين.
منذ فترة، توفى أستاذ عربى آخر مرموق. كان معروفا هو كذلك بكرمه، ومودته الغامرين. وقد ترك بحوثا أصيلة ملهمة، وشارك بفاعلية فى الحياة العربية العامة لوقت طويل. وفى الحقيقة، فإنه كان موضع تقدير واحترام إلى حد كبير. وحين لبى نداء ربه، تسابقت الأقلام والألسن لذكر مكارمه. وهو أمر طبيعى ومحمود. لكن غير الطبيعى هو أن تتحول حياة الراحل بأكملها إلى قصيدة مدح عربى، يُكلّل فيها بكل المحامد، والفضائل أجمعين. وقد قرأتُ وسمعت مدائح تلامذته وأصدقائه عن عظمته أستاذا محاضرا، أو مشرفا على البحوث، أو مناقشا. فى حين أن بعض هؤلاء المادحين كثيرا ما انتقدوا الرجل أثناء حياته؛ لكونه يحضر محاضرة، ويتغيب خمسة. ويدخل إلى قاعة الدرس، وهو لا يتذكر عن أى موضوع سيتحدث. ويكرر فى المرات القليلة التى يحضر فيها ما يقوله فى كل محاضرة دون مزيد. وحين كان يُشرف على رسالة فإنه نادرا ما كان يقرؤها كاملة. وحين يُناقش باحثا فى رسالة ماجستير أو دكتوراه، لم يكن يقرؤها كاملة غالبا، وكان يكتفى بأن يُحلق فى آفاق أخرى، قد تلامس الرسالة أو لا تُلامسها بحسب الظروف.
***
إنّ مدح النبل الإنسانى، والكرم الغامر، ونقاء السريرة، وطيبة القلب، وأصالة البحث، أمور شديدة الأهمية، وتكشف عن نبل المادح، الذى يُعطى للممدوح ما يستحقه من عرفان، وهى صفات تكفى وحدها لخلق ذكرى رائعة فى زمن قل فيه من نجوا من فساد الروح والسلوك. لكن تجاوز هذا إلى إضفاء شرعية على سلوكيات مهنية مُشينة أمر خطير. فحين يتساوى الأستاذ الملتزم بواجباته مع غير الملتزم، ومن يُراعى أخلاقيات المهنة مع من لا يُراعيها، سيفسد الكل. وحين نمتدح سلوكيات لا يختلف راشدان على أنها خاطئة، وسلبية، بل مجرمة فى بعض الأحيان؛ فإننا نعطى إشارة خضراء لاستمرارها وتوغلها. ولن يُفيد الراحلون شيئا من الكذب بشأنهم، وادعاء ما لم يكن لهم أو فيهم. ولربما كانوا هم أنفسهم أول المعترفين بخطئهم، وأكثر النادمين عليه.
لقد اختار أجدادنا أن يجعلوا الموت سبيلا لتخليد قصص الأفعال الخيّرة للراحلين، ظنا منهم أن منع الكلام عن المثالب الميتة، ربما يقود إلى عدم تكرارها من جديد. لكن السكوت عن المثالب شىء، ومدحها شىء آخر. وإذا كنا قد ارتضينا أن يكون الموت مرآة لا تتحدث إلا عن كل ما هو جميل فى حياة الراحلين، فلنحرص أن تظل المرآة صادقة، تنقل حياتهم هم، وليس حياة مزيفة أخرى نخترعها لهم.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved