لماذا لا يحبون الدستور؟

أيمن الصياد
أيمن الصياد

آخر تحديث: الأحد 20 أغسطس 2017 - 8:07 م بتوقيت القاهرة

لم تكن الضجة التي رافقت إقدام رجب طيب أردوجان على تعديل دستور بلاده، ليمد من فترة رئاسته، وليبسط سيطرته على مقاليد الحكم «والقرار» في تركيا قد هدأت، حتى كان المصريون الذين انتقدوه يومها قد تأهبوا لتعديلات دستورية لا تختلف كثيرا في الهدف والغرض، والتبريرات «المعلنة» … يالها من مفارقة.

 ـــــــــــــــــــــــــ

نعم للتعديلات الدستورية: تركيا ـ يناير ٢٠١٧ (AP / Emrah Gurel)

بالتعبير القانوني المعروف فالأمر كله ليس أكثر من علامة «كاشفة، لا منشئة» لحقيقة ما جرى ويجري في مصر منذ أربع سنوات

لا أبالغ إن قلت إن ما يجري الترتيب له هو بالتعريف: «انقلاب» على الدستور (والتعبير سبقني إليه الزميلان عبدالله السناوي، وعبدالعظيم حماد في هذه الجريدة) ولعلي لا أبالغ أيضا إن حسبت أن التاريخ الذي مازال مشدوها لما يجري في بلادنا سيكتب يوما أن التعديل المزمع قد لا يكون في توصيفه الأخير أكثر من علامة «كاشفة، لا منشئة» لحقيقة ما جرى ويجري في مصر منذ أربع سنوات.

***

الحديث الذي علا صوته عن التعديل، ليس جديدا وليس مجرد دردشات سهرات صيفية على شواطئ الساحل الشمالي، فبالونات الاختبار، والتصريحات المواربة والصريحة لم تتوقف، حتى قبل أن «يطلقها» الرئيس لا غيره في يوليو ٢٠١٥ بحديثه عن الدستور (الذي أقسم على احترامه) معتبرا أنه طموح جدا.. «يحتاج وقتا لتفعيله»، قبل أن يعود بعدها بأسابيع، ليعرب عن نواياه بحديث عن «النوايا الحسنة» لمن كتبوا الدستور. 

صدمت «النوايا»، البعض يومها، وفضل البعض عدم التصديق.. وأنكر البعض (وما زال) القصة كلها، مؤكدا أن شيئا من هذا لن يحدث. بالضبط كما حدث في قضية تيران وصنافير. أعرف مسئولا كبيرا ظل لعام كامل يؤكد لمجالسيه (صادقا / أو مُصدِقا) أن اتفاقية الجزيرتين «لن تتم»، وأن الأمر لا يعدو أن يكون «حركة في المكان»، تنتج أصواتا، وتطيب خواطر، ولكنها لن تصل أبدا إلى ما يمس الأمن القومي بإقرار مثل تلك الاتفاقية (!).

ثم كان ما نعرفه من «تمرير» للاتفاقية، يستوفي بعض الجوانب الشكلية، ويتغافل عن بعضها الآخر، خاصة تلك «الدستورية» (راجعوا من فضلكم المواد أرقام ١٥١ و ١٩٠). وهو الأمر المتوقع ذاته مع «تمرير» ما يتحدثون عنه الآن من «تعديلات / انقلابات» دستورية.

***

اليمين الدستورية ـ يونيو ٢٠١٤

بكل حماس باتوا يتنادون لتعديل الدستور ولكن هل كانوا أصلا قد احترموا نصوصه؟ ربما كان هذا هو السؤال الأهم

لم يكن ما جرى في مسألة الجزيرتين، وحده الذي يمثل انتهاكا، إن لم يكن للنصوص فعلى الأقل لما نعرفه من «روح الدستور». كما لم يكن النص الصريح للمادة (٢٤١) والذي يقضي بحتمية أن «يلتزم مجلس النواب في أول دور انعقاد له بعد نفاذ هذا الدستور بإصدار قانون للعدالة الانتقالية يكفل كشف الحقيقة، والمحاسبة.. الخ»، هو النص الوحيد الذي جرى تجاهله، أو إهماله (هكذا)، فهناك أيضا النص الواضح والقاطع للمادة ١٤٥ من الدستور، والذي ذَكرنا به غير مرة المهندس يحيى حسين عبدالهادي والذي جاء فيه نصا «يتعين على رئيس الجمهورية تقديم إقرار ذمة مالية عند توليه المنصب، وعند تركه، وفي نهاية كل عام، وينشر الإقرار في الجريدة الرسمية». وهو الأمر الذي يبدو أن ثمة ما حال دون أن نعرف بحدوثه (!) والعهدة هنا على ما ذكره م. عبدالهادي (ابن القوات المسلحة) في مقالين؛ أحدهما بجريدة الأهرام الرسمية (٢ مايو ٢٠١٥) ثم جريدة الوطن (٨ يونيو ٢٠١٥).

أخشى أن أقول أن قائمة الانتهاكات التي نعرف جميعا، واعتدناها جميعا أطول من أن تتسع لها سطور هذا المقال. وهو الأمر الذي كتبت فيه هنا مرارا وتكرارا، وأخشى أنه من فرط اعتياده بات مألوفا لا يستوقف أحدا، رغم جسامته، ولا يلفت الانتباه. رغم ما يطرحه من أسئلة مهمة تمس شرعية النظام ذاته. وهل هناك ما يتصل بشرعية نظام؛ أي نظام أكثر من «أسئلة الدستور»؟

أخشى أن أقول أيضا أن اللامبالاة بالتحذير أو التذكير بما جرى ويجري يوميا من انتهاكات لهذه المادة أو تلك، بات وكأنه سياسة نظام. رغم أن قائمة المحذرين والمذكرين اتسعت لتشمل أسماء مثل السيد عمرو موسى رئيس لجنة الخمسين، الذي قال لنا قبل عامين وبوضوح قاطع (رغم دبلوماسيته المعهودة) إن «الدستور لم يطبق» لكي نطالب بتعديله (اليوم السابع ١٧ سبتمبر ٢٠١٥). ثم عاد قبل أيام لينبه إلى أن «الحديث المعاد عن تعديل الدستور في عام انتخاب الرئيس يثير علامات استفهام..».

ما لم يتطرق إليه «الدبلوماسي المخضرم» من تفصيل لمقولة أن «الدستور لم يطبق» أشبعه الكثيرون منذ اليوم الأول دراسة وبحثا «وتنبيها». من قبيل ذلك ما كتبه الدكتور زياد بهاء الدين (رجل القانون، والذي كان نائبا لرئيس الوزراء في وزارة ما بعد الثالث من يوليو قبل استقالته واضحة الدلالة) واعتبر فيه نصا أن «محصلة التشريعات الصادرة في الآونة الاخيرة تعني واقعيا أن الدستور الجديد أصبح في بعض جوانبه معطلا إلى حين إشعار آخر» ــ الشروق ٤ نوفمبر ٢٠١٤ .

ثم لعلي لا أظن أن أحدا يعيش في مصر، ما زال في حاجة لأن يقرأ ما نكتبه، أو يكتبه هذا أو ذاك في الموضوع، إذ يكفي لكل من يعرف قيمة «العدالة» في بناء الأوطان مقارنة ما يجري على الأرض بنصوص الباب الثالث الخاص بالحقوق والحريات والواجبات العامة (المواد من ٥١ إلى ٩٣) وكذلك الباب الرابع الخاص بسيادة القانون (تفصيل ذلك لمن أراد في هذا الرابط).

لا غرابة إذن فيما نسمع الآن من «نوايا» لانقلاب على نصوص الدستور الذي وافق عليه ٩٨٪ من المصريين، فالاستهانة بنصوصه من جانب أركان سلطة أقسمت على احترامه كانت أول الطريق. فكما أن «الأثر يدل على المسير» كما تقول الحكمة العربية، فإن «لكل النتائج مقدماتها» كما تقول القاعدة المنطقية. 

***

من باب المفارقة «الكاشفة» أن الذين يتنادون اليوم لتعديل الدستور (أو للانقلاب عليه) هم تحديدا الذين دعوا ثم هللوا للتصويت عليه بنعم

ثم قد يبقى في باب «تسرية الهموم» وتلطيف أجواء صيف أغسطس الحارة أن نستمع لبعض ما قيل «رسميا» من أسباب لتبرير التعديلات، التي لا يخفى على أحد سببها الرئيس.

فمن اللطيف «أو الطريف» مثلا أن يقول بعض «البرلمانيين» أن الدستور الحالي يفرض هيمنة غير مقبولة «للبرلمان» على قرارات وسياسات الرئيس. ووجه الطرافة لا يتمثل فقط في أن تجد برلمانيين يطالبون بالحد من سلطات البرلمان (وهو أمر لن تسمع عنه إلا في مثل بلادنا)، بل وأن تجد من يريدنا أن نغفل عن ما نراه من حقيقة الهيمنة المطلقة للرئيس وسلطته التنفيذية وأجهزته السيادية على مثل هذا برلمان. إذ لدينا برلمان حكى لنا بعض من اقترب في حينه «كيف تم تشكيله». ولدينا برلمان يكفيك أن تعرف مفهوم رئيسه عن الدور المفترض للمجلس النيابي وأعضائه، وعن الدور المفترض للصحافة والإعلام، وعن العلاقة المفترضة بين السلطة التنفيذية وهكذا برلمان. 

ولدينا برلمان لم ينفذ حكما باتا ونهائيا للمحكمة العليا يقضى بأحقية «المواطن» عمرو الشوبكي في عضويته النيابية.

ولدينا برلمان لم يسمح لأحد أعضائه بأن يسأل (مجرد أن يسأل) عن جوانب خاصة بتطبيق قانون زيادة معاشات العسكريين الذي كان يومها قيد المناقشة، أو بالأحرى «الإقرار»، إن أردنا واقعية التوصيف. (أسقطت العضوية عن النائب في نهاية المطاف)

ولدينا، بعد ذلك كله برلمان شهدنا جميعا كيف تعامل مع مسألة بأهمية جزيرتي تيران وصنافير، التي لن يستفيد من القرار الذي اتخذ بشأنهما غير إسرائيل، في حين تفقد مصر (والعرب) باعتماد هذا القرار ميزة جيوستراتيجية تتصل بصميم الأمن القومي.

ومن الطريف أيضا أن تقرأ ضمن التعديلات المزمعة النص على «استثناء أصحاب الخبرات النادرة من الموظفين العموميين من قيد عدم الجمع بين عضوية مجلس النواب، وبين الوظيفة العامة طوال مدة العضوية، على أن يحتفظ له بحقه في العودة إلى وظيفته إذا فقد مقعده البرلماني». وهو الأمر الذى يضرب مبدأي «تضارب المصالح» والفصل بين السلطات في الصميم، إلا أنه يبدو متسقا مع المفهوم السائد عند أصحاب القرار للتماهي بين السلطات. 

ثم يبقى من الطريف اللطيف أو ربما من باب المفارقة المضحكة المبكية «الكاشفة» أن الذين يتنادون اليوم لتعديل الدستور (أو بالأحرى للانقلاب عليه) هم تحديدا الذين دعوا ثم هللوا للتصويت عليه (يناير ٢٠١٤)، معتبرين أنه دستور حضاري؛ جاء يما لم يأت به الأولون والآخرون. الرئيس السيسي نفسه قال عنه نصا قبل أن يكون رئيسا أنه الدستور «الذي يحقق التوازن والعدالة والتوافق..»، منبها سامعيه إلى أن «الدستور أمانة في رقبتكم..» (الفريق أول عبدالفتاح السيسي وزير الدفاع في الندوة التثقيفية ١١ يناير ٢٠١٤).

***

العبث بالدستور لصالح الحاكم كان دائما الخطوة الأهم في الطريق الخطأ، فعلها إسماعيل صدقي والسادات ومبارك ومرسي، وهناك من يفعلها الآن .. وكلنا نعرف النتيجة

يبقى أن ما جرى في تركيا (وغيرها)، وما يجري التمهيد له في مصر (وغيرها) ليس بدعا في التاريخ، ففى كتاب الاستبداد (مع الاعتذار للكواكبي) أن أدولف هتلر لم يشغل باله حتى بإجراء التعديلات اللازمة للدستور الألماني للاستئثار بالسلطة، بل كان، تحت لافتة «ألمانيا فوق الجميع»، وتحت غطاء من الدعاية «الوطنية ــ الجوبلزية» أن اتخذ الطريق الأسرع والأسهل، فخلال شهرين من وصوله إلى مقعد الـ chancellor، كان قد نجح في إصدار قانون التمكين Enabling Act (١٩٣٣) والذي يعطي لحكومته حق إصدار ما تشاء من قوانين «دون أن تمر على البرلمان» (!) وفي مثل هذا برلمان، وعلى وقع طبول الدعاية الصاخبة، كان من الطبيعي أن يصدر «الرايختاج» قراره بالموافقة. ثم كان من الطبيعي أن ينتهي الأمر كله بألمانيا إلى ما انتهت إليه (سبتمبر ١٩٤٥).

أما في مصر، فقد كان أن قرأنا في تاريخها الحديث أن العبث بالدستور لصالح الحاكم، كان دائما الخطوة الأهم في الطريق الخطأ. فعلها إسماعيل صدقي عام ١٩٣٠ لتوسيع صلاحيات الملك، فقاد الوفد انتفاضة الطلبة عام ١٩٣٥. وفعلها السادات عام ١٩٨٠ ليتجاوز قيدا دستوريا يحدد ولاية الرئيس بمدتين، فكان أن ذهب إلى قبره قبل أن تنتهي مدته الثانية. وفعلها مبارك بتعديلات تمهد طريق القصر «حصريا» لابنه، فكان أن أخذهما الطريق واقعيا إلى ما أخذهما إليه. ثم كان أن فعلها محمد مرسي بإصداره الإعلان الدستوري (نوفمبر ٢٠١٢) فأخذ مصر كلها إلى ما ذهبت إليه. والغريب أن هناك من يفعلها الآن.

***

وبعد..

أتعرفون أين يكمن جوهر المشكلة؟

ليس في أولئك الذين تمترست مصالحهم في خندق هذا النظام، فأصبحوا جنوده بالحق أو بالباطل «أو بالظلم». بل هي تكمن / في أولئك المخلصين الذين لا أشك في إخلاصهم، وفي أولئك الموهومين أو المخدوعين الذين نجح إعلام التوجيه المعنوي في غسل عقولهم، فنسوا جميعا (هؤلاء وهؤلاء) أن ما يبحثون عنه من دولة قوية لا مكان لها في عالم اليوم، دون احترام حقيقي للدستور. فلا وطن قويا حرا، بلا مواطن حر.. وإن لم تصدقوني، فاقرأوا دروس الخامس من يونيو ١٩٦٧، وسقوط بغداد (أبريل ٢٠٠٣)، وجدار برلين (١٩٨٩).

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

لمتابعة الكاتب:

twitter: @a_sayyad

Facebook: AymanAlSayyad.Page

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

روابط ذات صلة:

أسئلة «القَسَم» .. والنصوص .. وعام جديد

نصوص .. وأخبار (عن انتهاكات الدستور) 

حديث «النوايا»

في الطريق الذي نخشاه .. إلى «الدولة الفاشلة» 

فهَلَّا عرفتم أن «الجدارَ» قد سقط!

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved