حديث «النوايا»

أيمن الصياد
أيمن الصياد

آخر تحديث: الأحد 20 سبتمبر 2015 - 9:54 ص بتوقيت القاهرة

هل هناك من يدرك أن الفارق الرئيس بين «الدولة» تعريفا، والمجتمعات البدائية هو «الدستور»، الذي هو تعريفا أيضا «العقد الاجتماعي» الذي ينظم العلاقات بين جماعة من الناس يقطنون مساحة من الأرض وبين السلطات التي أوكلوا إليها إدارة شؤونهم؟ 

السؤال الصحيح ليس عن «نوايا» اللجنة، ولا عن «نوايا» الرئيس. السؤال الصحيح هو: هل احترمت الدولة على مدى هذين العامين هذا الدستور؟

حين صدرت جريدة التحرير في السادس عشر من يوليو الماضي تحمل عنوانا عريضا يقول نصا: «الرئيس لا يحب الدستور» قلت لمحدثي أن هذه الجريدة لن تستمر طويلا. توقفت الجريدة، ربما لأسباب أخرى كما يقول أصحاب رأس المال أو منطق قوانينه، إلا أن هذا لن ينفي حقيقة أن قرار الإغلاق، بغض النظر عن أسبابه كان قد لبى رغبةً لم يعد يخفيها كثيرون في شطب كلمة «التحرير» من القاموس اللغوي للضمير العام. أتذكرون قناة «التحرير» التي كانت يومَ ظهرت صوتا لميدان الثورة بكل عفويته وتلقائيته (بل ونزق نقائه أحيانا) أصبحت «ten»، بعد أن تبدل الخطاب، وتبدلت الوجوه على الشاشات في دراما إغريقية سافرة العنوان، توجز تفاصيلُها كواليسَ ما جرى بعد الحادي عشر من فبراير ٢٠١١، خارج الحدود أحيانًا، وخلف الأبواب المغلقة في كل الأحايين.  

•••

لمن لا يذكر، كان مانشيت «التحرير» المختصر، يشير إلى حديث للرئيس منتصف يوليو الماضي وصف فيه الدستور بأنه «طَموحٌ جدًا.. يحتاج وقتًا لتفعيله»!

ثم كان أن عاد الرئيس قبل أيام بحديث مشابه عن «النوايا الحسنة» لمن كتبوا الدستور. فكان أن لفت الانتباه إلى ما منعت تحيزاتُ الاستقطاب البعضَ في المرة الأولى من أن يلتفت إليه. ثم كان ما كان من صخب لم ينته بعد حول الموضوع. مقالاتٌ وتعليقاتٌ تتباين انتماءات أصحابها، كما تتباين قطعًا نواياهم. ثم كان أن تذكر البعض أن الحديث ليس جديدا، إذ يتصل به (بحكم الموضوع) ما كان قد تسرب إلى الخطاب الإعلامي في ديسمبر الماضي «كبالونات اختبار ربما» تطالب بتعديل الدستور لمد فترة بقاء الرئيس في منصبه أطول مما هو مقرر حاليا، قبل أن يتحدث آخرون، في سيمفونية نشاز متناغمة عن ضرورة عودة «صلاحيات مبارك» الرئاسية المقررة بدستور ١٩٧١ (إن لم يكن أكثر). خصما من الصلاحيات «التشاركية» للبرلمان والحكومة التي يقررها الدستور الجديد.

أيا ما كان من أمر جوقة العازفين، فقد كان أن استدعت طبولُهم للذاكرة مانشيتَ «التحرير» الصادم، ثم كان أن استدعاه للذاكرة أيضا تصفيقُ البعض لحديث الرئيس حول «النوايا الحسنة للذين وضعوا الدستور»، ومطالبة البعض الآخر «لرئيس البلاد» بالإفصاح عن نواياه الحقيقية حيال «دستور البلاد» الذي أقسم على احترامه، و للذاكرة ايضا كان طبيعيا أن يَستدعي ما نسمعه اليوم كلَ ما كنا قد سمعنا من قبل من قصائدَ المدح «الإعلامي» التي قيلت في هذا الدستور «الذي يحقق التوازن والعدالة والتوافق..» كما قال الرئيس نفسه قبل أن يكون رئيسا، مؤكدًا يومها أن «الدستور أمانة في رقبتكم..» (الفريق أول عبدالفتاح السيسي وزير الدفاع في الندوة التثقيفية ١١ يناير ٢٠١٤) ثم كان طبيعيا أيضا أن تصبح «النوايا الحسنة»  عنوانا لكل حديث، وورقة على كل طاولة.

•••

أيا ما كان أمر «النوايا» في حديث الرئيس، أو المطالبين له بالكشف عنها، فقد كنت دوما من الذين لا يحبون التفتيش في «النوايا». إذ أحسب وتعلمت أن ما هو معلوم للناس، ومطروح «علنا» على الطاولة كان دوما كافيا للتحليل والتعليق واستخلاص النتائج.  

ضمن مقالات كثيرة كتبتها عن الدستور «الغائب»، يبقى مقالان أستأذن القارئ الكريم في العودة إلى ما فيهما من سردٍ لحقائق، لا تفتيش في «نوايا». أحدهما نشرته في هذا المكان بتاريخ ٢ مارس ٢٠١٤ بمناسبة التغيير المفاجئ لوزارة الببلاوي تحت عنوان «نصوص .. وأخبار»، والثاني بتاريخ ١٤ يونيو ٢٠١٥ بمناسبة مرور عام على تولي الرئيس، وطرحت فيه على القارئ الكريم ما بدا واضحا في عنوان المقال يومها: «أسئلة القسم .. والنصوص .. وعام جديد».

 

في الثامن من يونيو ٢٠١٤ وفي أجواء أراد لها المنظمون أن تكون «مهيبة» كان الرئيس المنتخب المشير عبدالفتاح سعيد السيسي يقف أمام قضاة المحكمة الدستورية العليا ليحلف اليمين التي تنص على «احترام الدستور». 

«العقد شريعة المتعاقدين»، كما لم أكن أحتاج قطعًا لأن أكتب يومها. فتلك قاعدة فقهية وقانونية نعرفها جميعًا ويعرفها قبلنا القضاة الأجلاء الذين حرصوا أن يرتدوا أروابهم ساعة أن أقسم الرئيس. والعقد في حالتنا تلك وكما تقول كتب السياسة والقانون هو «الدستور» ولا شيء غير الدستور. هذا العقد الذي أقر نصوصه ٩٨٪ من الناخبين، وأقسم الرئيس الذي انتخبوه على احترامه. وشهد على التعاقد لفيف من القضاة الأجلاء. 

هل هناك بين من يخفون كل سوءاتهم خلف لافتة «الحفاظ على الدولة ومؤسساتها» من يدرك أن لا «دولة» تعريفًا، في هذا العصر دون دستور يُحترم

 أظن اليوم، بعد عامين من اعتماد الوثيقة «العقد»، وعام من القسم على احترامها، أن هناك من يحتاج إلى التذكير بما جرى ويجري يوميا من انتهاكات لهذه المادة أو تلك، إذ يكفي «تبيانا وإيضاحًا» مقارنة ما يجري على الأرض بنصوص الباب الثالث الخاص بالحقوق والحريات والواجبات العامة (المواد من ٥١ إلى ٩٣) وكذلك الباب الرابع الخاص بسيادة القانون (تفصيل ذلك لمن أراد في هذا الرابط)، كما قد يكفي العودة إلى المقال الذي كتبه قبل عام كامل الدكتور زياد بهاء الدين (رجل القانون، والذي كان نائبًا لرئيس الوزراء في وزارة مابعد الثالث من يوليو قبل استقالته واضحة الدلالة) واعتبر فيه نصا أن «محصلة التشريعات الصادرة فى الآونة الاخيرة تعنى واقعيا أن الدستور الجديد أصبح فى بعض جوانبه معطلا إلى حين إشعار آخر» ـ الشروق ٤ نوفمبر ٢٠١٤، كما قد يكفي أيضًا ما ذَّكرنا به المهندس يحيى حسين عبدالهادي (ابن القوات المسلحة وحركة كفاية) من انتهاك للمادة ١٤٥ من الدستور والتي جاء فيها نصًا «يتعين على رئيس الجمهورية تقديم إقرار ذمة مالية عند توليه المنصب، وعند تركه، وفى نهاية كل عام، وينشر الإقرار في الجريدة الرسمية». وهو الأمر الذي لم يحدث حتى تاريخه حسب ما يذكر م. عبدالهادي في مقالين بجريدة الأهرام (٢ مايو ٢٠١٥) ثم الوطن (٨ يونيو ٢٠١٥).

لم يكن السيد عمرو موسى رئيس لجنة الخمسين مبالغًا إذن (رغم مهارة دبلوماسية واضحة ومتوقعة في تصريحه) عندما قال أن «الدستور لم يطبق» لكي نطالب بتعديله (اليوم السابع ١٧ سبتمبر ٢٠١٥). وهو التصريح الذي قرأناه استطرادا لتصريح مشابه قبل حوالي شهر للمتحدث الرسمي باسم لجنة الخمسين (السيد محمد سلماوي في «الشروق»  ٦ يوليو الماضي). فكلنا بتنا نعلم «أن الدستور لم يطبق» ليس فقط في جانبه الإجرائي الخاص ببرلمان لم ينتخب، كما ربما تقول لنا «إيضاحات الدبلوماسي المخضرم» لاحقًا، بل في كثير جدا غير ذلك. والأمر لا يحتاج أكثر من قراءة النصوص (كما يدعونا السيد موسى في تصريحه) ثم مقارنتها «بإنصاف» بالواقع على الأرض.

•••

قبل ما يقرب من العامين (نوفمبر٢٠١٣)، وفي مؤتمر دولي عن «الدساتير كأداة ضامنة لتحول ديموقراطي سلمي» كان بجواري على المنصة د. أحمد البرعي أستاذ القانون والوزير في وزارة ما بعد الثالث من يوليو، وأحد الشهود (بحكم خبرته القانونية ودوره السياسي) على كيف ضلت خارطة الطريق طريقها فأخذت الذين خرجوا في الثلاثين من يونيو في نهاية المطاف إلى غير ما خرجوا من أجله. يومها كان طبيعيا أن يؤكد رجل القانون «والسياسة» على قيمة «الدستور» وما يعطيه احترامه من شرعية للنظام السياسي، مذكرا بأنه «كان لدينا في دستور ١٩٧١ مواد لو كنا قد طبقناها، ما كان حالنا هو هذا الحال».  ويومها كان ضمن تعقيبي أن عدم تطبيق مثل تلك المواد، أو الالتفاف عليها بما يعرفه القانونيون «بالتعسف في استخدام السلطة»، أو تشويه الدستور ذاته «على مقاس من يحكم» كما جرى في القصة المعروفة للمادتين ٧٦ و٧٧ كانت كلها عوامل تراكمت وتزاحمت فضاق بها الأفق، وضاقت بها حياة الناس فدفعتهم في نهاية المطاف إلى الشوارع في ذلك اليوم المشهود من يناير ٢٠١١. صحيحٌ أن الذين خرجوا، بل وربما الذين تنادوا من الشباب لإخراجهم لم يكونوا قد قرأوا الدستور، أو حفظوا مواده أو وقفوا أمام محكمته العليا ليطعنوا في هذا القانون أو ذلك الإجراء. ولكنهم قطعًا كانوا قد شعروا «بأثر» انتهاكه غيابا للحرية والعدالة الاجتماعية والعيش الكريم.

•••

وبعد .. 

فليس في كل ما سبق جديدٌ عن ما سبق أن كتبته «وكررته» في هذه الصفحة غير مرة. كما أن ليس في حديث الرئيس واقعيًا «جديد» يستوجب كل هذه الضجة. إذ يعرف القانونيون (الذين هم أولى بالحديث عن الدستور) أن هناك فارقا بين الوقائع «الكاشفة»، وتلك «المنشئة». وتقول الوقائع أن الدولة التي عرفنا منذ أن صوت الناس للدستور الجديد بتلك النسبة الهائلة، لم تحترم دستورها أبدا. أما «الكشف» عن ذلك، بحديث واضح أو مستتر، فلا يخرج عن كونه «مجرد تفاصيل»٠

فالسؤال الصحيح ليس عن « نوايا» لجنة كتبت الدستور قبل ما يقرب من العامين، ولا عن «نوايا» رئيس تحدث عنه قبل أيام. السؤال الصحيح هو: هل احترمت مؤسسات الدولة على مدى هذين العامين دستورَها الذي اعتمدته، وأقسم رئيسها نصا على احترامه؟ وهل هناك من يدرك أن الفارق الرئيس بين «الدولة» تعريفا، والمجتمعات البدائية هو «الدستور»، الذي هو، تعريفا أيضا «العقد الاجتماعي» الذي ينظم العلاقات بين جماعة من الناس يقطنون مساحة من الأرض وبين السلطات التي أوكلوا إليها إدارة شؤونهم؟ هل هناك بين من يخفون كل سوءاتهم خلف لافتة «الحفاظ على الدولة ومؤسساتها» من يدرك بحق أن هذا هو معنى الدولة؛ تعريفا في هذا العصر؟ 

أخشى أن الإجابة واضحة، وأشفق على هذا الوطن مما ستقودنا إليه. 

عرف تاريخ مصر الحديث أن العبث بالدستور لصالح الحاكم، كان دائما الخطوة الحاسمة نحو «نهاية محتومة». فعلها السادات عام ١٩٨٠ ليتجاوز قيدا دستوريا يحدد ولاية الرئيس بمدتين، فكان أن ذهب إلى قبره قبل أن تنتهي مدته الثانية. وفعلها مبارك بتعديلات تمهد طريق القصر «حصريا» لابنه، فكان أن أخذهما الطريق واقعيا إلى السجن، أو على الأقل إلى ساحة المحكمة. 

……………………

ثم .. أتدرون ما الذي يدعو حقًا للأسى في كل ما يدور من صخب وضوضاء؟ ليس حقيقة أن الذين هللوا «ورقصوا» للدستور قبل عامين هم الذين يرمونه اليوم بكل نقيصة، بل حقيقة أن بعض من يدافعون عنه، يستندون في جل دفاعهم إلي نفي أن الدستور «ينتقص من صلاحيات الرئيس»، لا أكثر ولا أقل .. نسأل الله العافية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

لمتابعة الكاتب:

twitter: @a_sayyad

Facebook: AymanAlSayyad.Page

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

روابط ذات صلة:

ــ  نصوص الدستور الغائبة

ــ «نتائج النتائج» .. ما بعد الأرقام

 

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved