الشكوى ضرورة ولكن..

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الثلاثاء 20 سبتمبر 2016 - 10:35 م بتوقيت القاهرة

من محاسن الظروف أنى قضيت سنوات الطفولة بالقرب من سيدات فى بيت كبير المساحة والعدد. كنت لسبب معين محل رعاية خاصة وانتباه استثنائى من أمى وخالاتى ومن تمشى فى ركابهن وتستضيفها مجالسهن. تكشف الصور الفوتوغرافية القليلة التى أمكن التقاطها لبعض هذه التجمعات النسوية عن أننى كنت ضيفا دائما على حضن أمى أو على حجر خالة أو أخرى أو على ذراع زائرة من الزائرات المترددات يوميا على البيت. تكشف الصور أيضا عن أن هذه الرعاية الخاصة استمرت حتى سن متقدمة نسبيا، الأمر الذى يفسر تذكرى لتفاصيل مناقشات عديدة نسوية الطابع، بعضها دار حول موضوعات تتسم بخصوصية فائقة. لا أشك للحظة واحدة فى أن كثيرا من تصرفاتى فى مراحل متعددة من حياتى تأثرت بما سمعت فى طفولتى عن عالم أو آخر من عوالم المرأة.

أذكر بشكل خاص وبوضوح غريب نقاشات كانت تدور فى هذه الجلسات حول عادة الشكوى التى كانت تمارسها زوجات تلك الأيام. لم يتغير فحوى النقاش أو حجج الطرفين فى جلسة عن أخرى. طرف يدعو لممارستها بانتظام وضمن منهج تصعيدى إذا لزم الأمر بهدف لفت انتباه الرجل إلى واجباته وحفزه على الاهتمام بامرأته، وطرف يؤيد ما ذهب إليه الطرف الأول ولكن يدعوه إلى توخى الحذر وعدم المبالغة فى ممارسة الشكوى خشية أن تظهر امرأة تغريه بحبائل من لا تشكو ولا تطلب ولا تغضب ولا تثير النكد والزعل.

***

عشت أتذكر هذه النقاشات بنفس القوة التى تجعلنى أتذكر أحاديث عائلتى الصغيرة يوم تداولت فى شأن استدعاء طبيب العائلة للكشف على شقيقى المريض لأيام عديدة، وكنت لم أتجاوز الثالثة من العمر. عشت أيضا أحذر كل من حانت ساعة اقترانها بأن تتوخى الحذر. حتما سوف تواجه ما يستدعى الشكوى، حتما سوف تشعر بالإجهاد أو بالضيق والإحباط لحظة عودته من عمله ناسيا أو غافلا أو متجاهلا احتضانها وتقبيلها والثناء على رائحة الطعام المنبعثة من المطبخ. حتما ستشعر بملل أو قلق منتظرة عودته من سهراته مع أصدقائه ثم بفضول وتوقع خلال انتظاره، ليفرغ من مشاهداته التلفزيونية ومحادثاته التليفونية، حتما ستشعر بالرغبة فى الشكوى وهذا حقها. أزواج يعترضون على استقبالهم يوميا على باب البيت بالشكوى من الإجهاد لكثرة المهام المنزلية ومتاعب الأطفال ومشكلات الخدم والجيران وتدخلات أفراد من عائلته فى شئونهما. ليس من حقها أن تفاجئه فور عودته بأنها أعدت نفسها للخروج معه، وإذا لم يبدِ استجابة سريعة انهمر الغضب فى صور شتى وأحيانا مبتكرة. حذرتهن من خطورة الانسياق بسذاجة وبراءة أو بالكيد والمنازعة وراء عبارة «أنا زهقانة قوم خرجنى»، العبارة التى كثيرا ما دمرت عائلات.

***

كنت فى الثامنة عشرة عندما استلمت مهام أول وظيفة لى وكانت بهيئة أجنبية. هناك، وعلى أيدى سيدة مصرية عالية الثقافة والخلق ورجل صعيدى تخصص فى الخارج فى علوم الإدارة الحديثة ورئيس أجنبى زاهد فى المنصب مسرف فى الإرشاد والنصح مبدع فى غرس الطموح، تعلمت أن أتجنب الأماكن حيث تكثر الشكاوى. فهمت وقتها لماذا يرفض المدير تعيين شخص ينضح حديثه عن نفسه بالشكوى، ولماذا يكره خلال الاجتماعات أن يعطى الكلمة لسيدة متكررة الشكاوى. قال ذات مرة إن الشكوى كالإنفلونزا الآسيوية لا يدخل موقع عمل أو بيت أو مجلسا من المجالس إلا وانتشر بسرعة متسببا أحيانا فى فوضى وتوترات تنذر بعواقب أحيانا جسيمة.

***

أسمع كثيرا هذه الأيام شكاوى من سلوكيات متدهورة فى الشارع ومواقع العمل والعلاقات بين البشر. أنا وكثيرون غيرى نعى جيدا أن مثل هذه الشكاوى يمكن أن نسمع مثلها فى دول عديدة نزورها أو نمر بها ولا نبدى انزعاجا يذكر. نشعر فقط بالخطر حين تتكرر الشكوى وتتعمق وتصبح بالفعل كالمرض. بل هى يمكن أن تصير مرضا. خذ مثلا سائق سيارة نقل ضخمة يشكو قلة الأجر ومشقة القيادة فى الطرق المصرية وصعوبات التعامل مع بعض أفراد شرطة المرور وحرارة الطقس. الشكوى دائمة ومتكررة والنتيجة فقد متقطع للوعى خلال القيادة وبعد عودته إلى بيته يحاول معالجته بتناول المخدرات، أو ينتهى الرجل باكتئاب مزمن. هنا قد تكون الشكوى ضرورية لتحسين أحوال العاملين فى مهن كثيرة شاقة وفى ظروف صعبة.

***

هناك أيضا الشكوى المعتاد سماعها من المرافقين لمرضى الحالات الصعبة وكبار السن والعجزة والمصابين بالاكتئاب الحاد وأمراض النسيان، هؤلاء يصابون أحيانا بحالات إجهاد يعرف طبيا بإجهاد التعاطف. تراهم من فرط الشفقة والخوف على مرضاهم والتماهى معهم وقد سقطوا فى إعياء نفسى، وفى أحيان يسقطون فى إعياء جسدى. أقرب إلى هذا النوع الشكوى الناجمة عن إجهاد وتعب جسدى ونفسى الصادرة عن سياسيين أحبطتهم جماهيرهم. رأيت هذا النوع بعد اندلاع ثورة يناير، حين كان السياسيون الجدد يتساقطون أمامى كـأوراق الخريف لأنهم انتظروا بسذاجة وقصر نظر أن تهب الجماهير فتحكم وتضع بنفسها دساتير الثورة والتشريعات وتضبط الأمن وتنظم صفوفها فى أحزاب عصرية، وحين قصرت الجماهير ولم تهب انهال عليها هؤلاء السياسيون الجدد بسيل من الاتهامات: شعب جاهل أو متخلف أو كاره للديمقراطية أو بخيل بجهده ووقته أو يفضل دفء «الكنبة» على برودة الأسفلت. بالسرعة المعتادة والمتوقعة سرت شكاوى السياسيين، ثوارا كانوا أم قادة أحزاب أم رجال سلطة مدنية ودينية وعسكرية، كالنار فى هشيم الثورة متسببة فى حال الاكتئاب العام أو الإجهاد «الوطنى» المعرقل ليس فقط لمسيرة الثورة ولكن أيضا لكل المشاريع والخطط التى تفنن فى طرحها من جاءوا بعدهم.

***

حذرت عديد الشباب من كثرة الشكوى وخطورتها على استقرار البيوت الصغيرة، والآن احذر القادة والسياسيين على اختلاف وظائفهم ومراتبهم، أحذرهم من خطورة ترديد الشكوى من الإجهاد والسهر والعمل المضنى المتواصل، فالتاريخ السياسى لبنى البشر يؤكد لنا أنه رغم ادعاء الإجهاد فإن حاكما واحدا عبر الزمن لم يتنح عن وظيفته بسبب الإجهاد سوى اثنين من بابوات الفاتيكان، البابا بينيديكت السادس عشر تحت ضغط الكرادلة والرأى العام فى عام 2013 والبابا سيلستين الخامس فى عام 1294، أغلب الحكام فى عالمنا الثالث يشكون من الإجهاد ولكنهم لا يتنحون بسببه ويشكون فى الوقت نفسه من الشعب، من تكاسله وانتاجيته الضعيفة أو جهله ولا مبالاته أو ضعف اهتمامه، الشكوى فى معظم العواصم من الشعوب التى تحبط الزعماء وتفسد أحلامهم ولدينا كنوز فى التراث تحكى قصصا عن أنبياء يشكون من شعوب لم تقدرهم حق قدرهم. أعود فأحذر كما سبق وحذرت الشباب الساعى إلى استقرار وسعادة فى حياته العائلية، احذر من كثرة الشكوى فالشكوى كما أفتى الأطباء مرض معدٍ، عما قليل سوف يتداولها الكبير والصغير والحاكم والمحكوم والظالم والمظلوم والغنى والفقير، وساعتها سوف يصعب وقف عواقبها أو ضبطها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved