شهادة متأخرة عن سبق صحفى مبكر

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الثلاثاء 21 أبريل 2009 - 10:11 م بتوقيت القاهرة

 فى عدد «الأهرام» يوم السبت الماضى، استذكر الزميل الكبير إبراهيم نافع اللقاء اليتيم الذى أجرته الصحافة المصرية مع الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، قبل إنجاز التحرير فى 25 آيار ـ مايو من العام 2000.

وبحكم الزمالة التى تربط بين الأستاذ إبراهيم نافع وبينى، فقد طلب إلىّ أن أتولى ترتيب موعد اللقاء مع السيد حسن نصر الله، وهكذا كان: ذهبنا معا، وكان يصحب إبراهيم أربعة زملاء بينهم باحثان فى مركز الدراسات الاستراتيجية فى الأهرام، أحدهما الدكتور عبدالمنعم سعيد، ومحرران، وكان معى بعض زملائى فى «السفير» وكانت لنا صفة الشاهد فقط.

كان الوصول سهلا، يومذاك، إلى مقر الأمانة العامة لحزب الله بحارة حريدة، فى قلب الضاحية الجنوبية، وهو المقر الذى دمرته الغارات الجوية الإسرائيلية فى حرب تموز 2006 على لبنان جميعا، وعلى المناطق التى تقدر أن فيها مقار قيادية أو مستودعات سلاح، أو وهذا هو الأهم: قياديين لحزب الله.

استقبلنا الـسيد «حسن نصر الله» بكثير من الإكرام والود، خصوصا أنها كانت المرة الأولى التى تجئ فيها إليه صحافة مصر لمحاورته والتعرف إلى أفكاره وإلى خطط حزب الله ورؤيته للبنان والمنطقة، لاسيما بعد إجلاء قوات الاحتلال الإسرائيلى إذ كان كل شىء حينها يشير إلى أن موعد التحرير الكامل للأراضى اللبنانية ليس بعيدا، وهو ما تم فعلا بعد 68 يوما من موعد اللقاء.

ذلك أن التحرير قد تم إنجازه فعلا فى 25 آيار ـ مايو من العام 2000، وكان ذلك واحدا من الأعياد القومية العظيمة، خصوصا أن العدو الإسرائيلى قد أجلى جنوده وآلياته ومدفعيته الثقيلة ليلا، تاركا مجموعات من العملاء الذين تعاونوا معه على امتداد سنوات مما كان يسمى «جيش انطوان لحد» لمصيرهم.. فخونة أوطانهم لن ينالوا من العدو إلا الاحتقار والتخلى عندما تقتضى مصالحه أن يبدل من خططه الحربية بما يتناسب مع مصالحه.

بعد التعارف وتكرار الترحيب وإبداء الاستعداد للإجابة عن أى سؤال تحمله بعثة «الأهرام»، افتتح الأستاذ إبراهيم نافع الكلام بأنهم قد جاءوا ليعرفوا من قيادة حزب الله مباشرة أفكار هذا الحزب الذى يخوض معركة تحرير ما كان متبقيا من الأراضى اللبنانية تحت الاحتلال الإسرائيلى.

يومها كان ما عرف آنذاك بالشريط المحتل الذى يضم معظم المناطق الحدودية للبنان مع فلسطين المحتلة، مازال خاضعا لقوات الاحتلال التى نصبت فيها «جيشا» من المرتزقة اللبنانيين بقيادة ضابط متقاعد هو العميل انطوان لحد.

بعد التقديم، أخفى الزميل إبراهيم نافع عينيه تحت النظارة السوداء، تاركا مهمة المباشرة فى الحوار إلى الدكتور عبدالمنعم سعيد.

ولقد فوجئنا، نحن شهود الحال، بأن الأسئلة الأولى كانت بعيدة كل البعد عن الحزب وعن العدو الإسرائيلى وعن تحرير الأراضى المحتلة، بل عن السياسة جميعا، ومواقف الحزب مما يجرى فى المنطقة من حول لبنان.

كان السؤال الأول عن موقع الأحلام فى التفسير الدينى؟
وكان السؤال الثانى عن زواج المتعة ورأى السيد حسن نصر الله فيه؟

أما السؤال الثالث فكان عن «التقية» وموقعها من ثوابت العقيدة فى المذهب الشيعى.
ولقد استفزتنا جميعا هذه الأسئلة لغرابتها عن اللحظة السياسية، فضلا عن أنها تخرج بالحوار مع القائد السياسى لأكبر حزب فى المنطقة العربية عن إطاره، وتتجاوز قضية التحرير التى تبرر وجود هذا الحزب وتقديمه مئات الشهداء وآلاف الجرحى وعشرات الأسرى من أجل هدف تحرير الأرض والكرامة.

على أن السيد حسن نصر الله ظل محافظا على هدوئه، كما على ابتسامته الوادعة، وأخذ يجيب عن الأسئلة الخارجة عن موضوعها بالتفسير الشرعى وظروفه، ملمحا إلى أن غيره من علماء الشريعة يستطيعون أن يقدموا شرحا أفضل وأكمل، «لأن ظروف الجهاد من أجل التحرير أخذته بعيدا»، فصار أكثر اهتماما بالعدو الإسرائيلى وسياساته التوسعية وقدراته العسكرية خصوصا أن الجبهة مفتوحة لحرب حقيقية تأخذ كل وقته واهتمامه وقراءاته التى توجب عليه أن يكرسها لمعرفة العدو.. مختتما اعتذاره بالإشارة إلى أنه قد أعد نفسه لحوار سياسى يأمل منه أن ينقل الزملاء فى «الأهرام» صورة صادقة وأمينة عن «حزب الله» ودوره فى معركة التحرير العربية، عبر مواجهاته اليومية الناجحة مع العدو الإسرائيلى المتفوق فى سلاحه المتطور وفى قدراته اللوجستية الهائلة، الذى يسيطر على الجو بطيرانه هائل القوة وعلى البحر بمدمراته وزوارقه الحربية الحديثة.

دخلت فى محاولة لإعادة الحوار إلى سياقه الطبيعى فسألت السيد حسن نصر الله عن آخر لقاء له مع السفير المصرى، فابتسم بشىء من الحزن وقال: إنه لا يعرف السفير ولا أى موظف دبلوماسى عامل فى السفارة المصرية.

ألححت بالأسئلة عن السفراء أو الدبلوماسيين العرب والأجانب الذين سبق له أن التقاهم، فإذا هم كثر، بينهم سعوديون وكويتيون وجزائريون وفرنسيون وروس وإسبان وإيطاليون وأفارقة وهنود وباكستانيون الخ..

قال إن العلاقات مع بعضهم على مستوى السفراء، ومع آخرين على مستوى المستشارين والقناصل، وهم فى الغالب الأعم من ضباط المخابرات «نحن نعرف هذا وهم لا يخفونه».

وكنا فى لبنان عموما، وفى «السفير» خصوصا، نعرف من بعض السفراء العرب والأجانب تفاصيل عن علاقات بعض الدول بحزب الله وقد لخصها أحدهم بالقول: كيف لى أن أدعى أننى عرفت لبنان إذا ما تجاهلت أكبر وأقوى حزب سياسى لبنانى وأحد أكبر الأحزاب السياسة العربية.. ثم إن الصراع العربى الإسرائيلى هو الأساس فى سياسات المنطقة فكيف يمكن أن أتجاهل هذا الحزب الشعبى الكبير الذى بات باعتراف الجميع قوة سياسية مؤثرة فى السياسات جميعا؟!

بل إن أحد السفراء العرب كان يهتف مهللا كلما جاء الحديث عن حزب الله وعن أمينه العام السيد حسن نصر الله: إنه ولد عمى، ولد عمى، فأنا أيضا من السادة، وإن كنت سنى المذهب!

بعد تلك المشاغبات، عاد الحديث إلى سويته، وانطلق السيد حسن نصر الله يشرح مخاطر إسرائيل وأطماعها ومشروعاتها التوسعية، تحدث عن المستعمرات الاستيطانية وتعاظم مساحاتها وتزايد أعداد وحوش المستعمرين الذين يستقدمون من أربع جهات الأرض، وتبنى لهم المستوطنات على حساب أراضى الفلسطينيين ويسلحون بأحدث الأسلحة وتطلق أياديهم فى مصادرة أراضى أصحاب الأرض لتهجيرهم بعيدا عنها.

وتحدث السيد حسن نصر الله عن مصر بكثير من الحب والتقدير لدورها،مفتقدا تأثيرها الذى يمكنه أن يغير فى صورة الواقع العربى المتردى.

قال وأعاد مشددا إن وحدة العرب هى مصدر قوتهم، وأكد فى أكثر من مرة، خلال كلامه، إنه يحتفظ فى وجدانه بصور مشرفة لبطولات الجيش المصرى فى حرب أكتوبر والعبور العظيم لاسترداد حقهم فى ترابهم الوطنى.

وقال إن غياب مصر عن دورها يحدث خللا استراتيجيا تستفيد منه إسرائيل، وحذر من خطورة المشروع الإسرائيلى لتفريغ الضفة الغربية من أهلها لاستقدام المزيد من المستعمرين.

وقال إنه كغيره من أبناء جيله وعى على الحياة من خلال الكتاب والأدباء والشعراء المصريين، الذين كان يحرص على متابعة ما تيسر من نتاجهم وهو يدرس فى النجف الأشرف.

***

.. ونعود إلى ما كتبه الأستاذ إبراهيم نافع فى عموده «حقائق» يوم السبت الماضى، وقد جاء فيه: «... ولم يخف الرجل قناعاته الفكرية أو توجهاته السياسية التى ترى فى إيران النموذج والقدوة، ويلتمس الأعذار لسوريا فى عدم القيام بأعمال المقاومة انطلاقا من الجولان المحتل، ويلوم مصر لأنها لم تساند المقاومة».

إن فى هذا الاجتزاء إخلالا بصدقية العمل المهنى، كما يعرف بالتأكيد الأستاذ إبراهيم نافع، وهو الصحفى العتيق والمتمرس.

ومن حق الأستاذ إبراهيم نافع أو غيره من الكتاب والصحفيين أن يختلفوا كل الاختلاف مع السيد حسن نصر الله وسائر قيادات «حزب الله» فاختلاف الرأى لا يفسد للود قضية.

لكن اجتزاء مقاطع أو سطور من مقابلة نشرت على صفحة كاملة من «الأهرام» فى السادس عشر من فبراير ـ شباط سنة 2000، سيخل بالمعنى وسيظلم المتحدث فيها، الذى اغتنم الفرصة الفريدة فى بابها والعزيزة على قلبه من أجل أن يقدم حزبه، وأن يشرح موقعه النضالى فى قلب حركة التحرير العربية، للجريدة المصرية الكبرى، مفيدا من كونها المقابلة الأولى التى تتضمن اعترافا به وبحزبه وبالدور الجهادى للحزب الذى أنجز تحرير الأرض اللبنانية المحتلة بعد 68 يوما فقط من تلك المقابلة اليتيمة.

ولقد وجدت من واجبى، كشاهد ساهم فى ترتيب الموعد وتولى مرافقة الزملاء الأعزاء من الجريدة التى احتلت مكانة مميزة فى وجداننا بتاريخها العريق ودورها التنويرى الممتاز فى المراحل الصعبة من المواجهة مع العدو الإسرائيلى، بأن أدلى بشهادتى حول الحوار اليتيم ومجرياته.

ولست أقصد، بأى حال، اتهام الزميل الكبير إبراهيم نافع بالتحريف أو سوء القصد، لا سمح الله، لكن الاعتماد على الذاكرة فى هكذا ظروف ليس أمرا مشكورا، خصوصا أن الغلط فى كلمة أو فى تأويل معنى جملة واحدة قد يخل بالمعنى المقصود.

ولقد كان أحرى بصديقنا القديم أن يعود إلى المقابلة فيختار منها مقاطع حرفية تؤكد ما ذهب إليه فى استنتاجاته معتمدا على الذاكرة المثقلة بالكثير الذى تحمله.

وشكرا للزميل الكبير إبراهيم نافع أنه قد أتاح لى أن أقدم شهادتى على إنجازه سبقا صحفيا ممتازا، فى ذلك اليوم من فبراير ـ شباط سنة 2000، وهو الإنجاز الذى شفعه بتقديم ممتاز أين منه ما نسمعه من القاهرة وفيها هذه الأيام!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved