مـن يضمـن؟

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الإثنين 21 مايو 2012 - 3:48 م بتوقيت القاهرة

مع ذلك يجب أن نعترف، ونفخر، بأننا أقمنا مؤسسات يمكنها لو استكملت شجاعتها وأحسنت أداءها أن تضمن لنا أن الرخصة التى منحناها للرئيس القادم لن يساء استخدامها. أقمنا سلطة تشريعية نأمل أن تقوم بدورها الرقابى والتشريعى على الوجه الصحيح، وهو ما لم تفعله حتى الآن على الوجه الصحيح لأسباب بعضها مازال خارجا عن إرادتها كمؤسسة بين مؤسسات أخرى، وبعضها، أو أكثرها، يتعلق بقصور فى فهم كثير من أعضائها لدورهم وقصور فى معرفة حاجات مصر حسب أولويات حالتها الراهنة أو يتعلق بحال الاضطراب والتخبط فى منظومة الهوية وأسبقية الولاءات لديهم.

 

 

استعدنا أيضا جانبا واسعا من الحرية للمؤسسة الاعلامية، نكاد نقول إننا كدنا نكون قد اقتربنا كثيرا خلال الشهور الماضية من إقامة مؤسسة اعلامية جديدة مختلفة شكلا وجوهرا عن المؤسسة التى أزهقت روح الثقة فى نفس الانسان المصرى على امتداد عقود. إن هذه القدرة على إقامة مؤسسة جديدة يمكنها لو صمدت أن تمنع شهوات السلطة من الاستيلاء على عقل الرئيس القادم وقلبه، كما يمكنها أن تفتت بطانات السوء من حوله وأن تكون وسيطا أمينا فى نقل رغبات الناس وآرائهم مخترقة بها حصار النفوذ وجماعاته.

 

 

 

إنجاز عظيم أن يختار المصرى رئيسه من بين مرشحين عديدين وهو على كل حال ليس الانجاز الوحيد. إذ تحيط بهذا الإنجاز العظيم إنجازات أخرى مثل وجود سلطة تشريعية منتخبة ومؤسسة اعلامية «واعدة» ومثل انسان مصرى جديد يدرك ربما لأول مرة قدر قوته وقدر غضبه. هذا الانسان تلقى خلال عام ونصف العام دروسا مكثفة فى السياسة لم تنجح فى تلقينه إياها نخبة مثقفة أو سنوات قمع طويلة أو مدارس وجامعات، أو أحزاب بعضها لا يستحق العنوان الذى يحمله. لدينا انسان صار يعرف معظم حقوقه حق المعرفة، عرفها من اختلاطه بنظرائه فى الشوارع والمصانع والحقول والسجون والمستشفيات، لم يعرفها كعضو فى جمعية أهلية أو من محاضرة ومناقشة فى ندوة ومؤتمر علمى، تعرف عليها فى المكان الذى كان يجب أن يعرفها فيه وفى الظروف التى تناسب درجة تطوره السياسى.

 

 

●●●

 

لا يعنى ما أقول عن أن الانسان المصرى الذى عرف طريق الميادين لتنفيذ أغراضه، لن يعرف طرقا أخرى يعبر بها عن رأيه وينفث فيها غضبه. ومع ذلك سيبقى ثابتا من ثوابت فكره أن الميادين أصبحت ولمدة طويلة خطرا دائما على السلطة، أيا كانت هذه السلطة عسكرية أم مدنية أم دينية. وستبقى السلطة القادمة، أيا كانت هوية رئيسها، حريصة على ابتكار مدونة سلوك جديدة للتعامل مع الميادين. يعرف الرئيس القادم أنه مدين لهذه الميادين، إذ لولاها لما وصل إلى هذا المنصب. ويعرف أنه لا استقرار له فى منصبه أو حياته السياسية إلا إذا استطاع التحكم فى تفاعلات هذه الميادين. ويعرف أيضا أنه لا حلول وسطا مع غضبها وبخاصة غضب الأطراف التى سوف تحتل مواقع فى أقصى اليمين، يمين الرئيس الجديد ويمين السلطة الدينية التى تصورت أنها هيمنت وانتهى الأمر.

 

 

كثير من الناس تتصور أن نوعا من القمع آت لا ريب فيه. فأطراف العملية السياسية الجارية حاليا فى العلن، وبعضها فى السر، صاروا عديدين والصراعات بينهم لم تسو، وجميع الشرعيات أو أغلبها غير مكتملة ويكاد كل منها يفتقر إلى إجراء أو استفتاء أو توافق أو مصالحة. يخطئ من يحلم بأن الشرعيات القائمة وغير المكتملة تستطيع أن تحكم أو تتحكم فور إعلان نتائج الانتخابات أو تولى الرئيس الجديد السلطة. ما يغيب عن الكثيرين، عن قصد أو بحسن نية، هو أن هذه الانتخابات ليست سوى إحدى الحلقات المبكرة فى ثورة لن تكتمل إلا بتغيير مصر اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا. ويعذرنى المرشحون الكرام إذا قلت إن أحدا منهم لم يقنعنى بأنه نجح فى تجاوز برامج الحلول التقليدية والمؤقتة للمشاكل فانتقل إلى الرؤية الشاملة التى لو توفرت لديه لاقتنع الناس كافة بأنه لم يكن واحدا من كثيرين انتهزوا فرصة اندلاع الثورة ليمتطوها أملا فى الوصول إلى السلطة وإنما أثمرته الثورة ليحقق أهدافها.

 

 

●●●

 

سجلت كتب السياسة منذ القدم حقيقة أن التاريخ هو المعمل الوحيد الذى تجرى فيه تجارب السياسة. أمامنا فى هذا التاريخ كنوز من التجارب. ولعلنا نحن المصريين أكثر الناس تفاخرا بالتاريخ الطويل الممتد، وإن كنا أقل الشعوب وعيا بتجاربنا السياسية التى أجريناها فيه. لا نبالغ، ولا نتطاول، حين نقول إن المصريين لم يستمتعوا لفترات طويلة من الكرامة والعدالة الاجتماعية والحرية، وربما الرخاء أيضا فى ظل أى نوع معروف أو مجهول من أنظمة الحكم، ملكيا كان أم امبراطوريا أم مملوكيا أم جمهوريا أم استعماريا، يقول المؤرخون إن ما يسمى بالحكم الاسلامى، وهو الحكم الذى عاشت فى ظله مصر لقرون عديدة سواء فى عهود المماليك أو ولاة إمبراطوريات فى دمشق وبغداد أو الخلافة الفاطمية والعثمانية وغيرهما لم تترك لنا نماذج من الحرية والعدالة

 

الاجتماعية واحترام كبرياء الانسان، مسلما كان أم مسيحيا، ليسير على نهجها ممثلو حكم اسلامى جديد وإن جاء متنورا وعصريا ومنفتحا.

 

 

كذلك لم تخلف لنا التجربة الليبرالية فى التاريخ المصرى تراثا ملهما فى الحكم إلا من ناحية حرية نشر الأفكار والثقافة العصرية، أما فى جانب الممارسة فالأمثلة على نجاعتها وقوة صمودها فى وجه أول ريح هبت عليها قليلة. لم تكن تجربة رائعة كما يصفها تيار الرومانسية الليبرالية فهى لم تخلف سجلا زاخرا بالانجازات المستدامة فى مجالات العدالة الاجتماعية والحريات والتنمية الاقتصادية وكرامة الانسان المصرى، فضلا عن أن التجربة بأسرها لم تتجاوز ثلاثة عقود، ومعظم حكوماتها لم يمكث فى الحكم أكثر من عامين أو ثلاثة.

 

 

الموروث ضئيل جدا، ولا يحق لأحد أو حزب أو جماعة فكرية أو سياسية أن تستند إلى ميراث مصرى أصيل فى التزام نظام أو عقيدة حكم العدل والعدالة والحرية والكرامة الانسانية. تاريخنا لا يقدم نموذجا يستحق التقليد أو المحاكاة ولا يطرح رؤية نستلهمها، ولكنه يقدم عديد النماذج والرؤى التى يجب أن نطلب من حكامنا القادمين تحاشى تقليدها واستلهامها. هذا الجيل وحده، قدم نموذجا فريدا. قدم الثورة لنصنع بوحى منها رؤية للمستقبل لا رؤية مستوحاة من ماضٍ أغلبه مظلم وظالم.

 

 

●●●

 

من ننتخب؟. ننتخب الرجل الذى نضمن،بحسنا الواعى وعقلنا المتفتح، أنه سيرحل بعد نهاية ولايته الأولى أو الثانية على الأكثر، وأنه لن يرث من الماضى إلا ما يساعده فى نقل هذا البلد إلى القرن الذى ما زلنا نعيش على هامشه، وأنه لن يورث من بعده لبلده وليس لغيرها إلا إنجازات حقيقية وملموسة، وأنه لن يخرج من الحكم هو وأولاده وأحفاده وأقاربه وأصدقاؤه أغنى كثيرا جدا مما كانوا عليه قبل أن نصوت عليه رئيسا.

 

 

لن ننتخب إلا من نضمن بالتجربة والحس والسمعة، أنه لن يحيط نفسه ببطانة سوء وفساد، ولن يخفى علينا تفاصيل مرضه إن أصابته علة أو داء، ولن يسلب لبه بريق ذهب نفطى أو رضاء أمريكى أو يخضع لهيمنة خارجية تحت اسم الخلافة أو الأممية أو العولمة أو الحلف الأطلسى.

 

 

كيف نضمن؟

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved