المرشح الربانى

فهمي هويدي
فهمي هويدي

آخر تحديث: الإثنين 21 مايو 2012 - 11:47 ص بتوقيت القاهرة

لا أستطيع أن أصدق أن ثمة «مرشحا ربانيا» لرئاسة الجمهورية فى مصر. كما أننى لا أصدق أن ثمة تكليفا شرعيا بالتصويت لمرشح بذاته. لمجرد أنه ينتمى إلى فصيل مرجعيته الإسلامية. ومثل هذه الإيحاءات التى توظف المشاعر الدينية لصالح مرشح دون آخر قد تصدر بحسن نية، ولكنها يمكن أن تكون سببا للبلبلة إذا ما خسر المرشح الربانى مثلا، حيث يفترض فى هذه الحالة أن يكون فوزه مضمونا بل ساحقا. على الأقل لكى تبلغ الرسالة إلى الجميع ولكى يعرفوا الفرق بينه وبين آخر «غير ربانى». وستكون الطامة الكبرى أن يفوز عليه مرشح آخر «غير ربانى»، الأمر الذى قد يفسر بأحد أمرين، إما أن يكون المرشح الذى زعم أنه ربانى، انتحل الصفة وكذب على الجميع، أو أن المقادير تخلت عنه لإدراكها أن الرجل لا يستحق أن تشمله الرعاية الربانية.

 

لا يقف الأمر عند احتمال البلبلة. ولكن المشهد قد يبدو عبثيا، حين يشار إلى مرشح بذاته ويقول أحد الدعاة إن التصويت لصالحه يعد تكليفا شرعيا، لأنه منحاز إلى المرجعية الإسلامية. ولكن حين يكون هناك أكثر من مرشح ينطلق من المرجعية الإسلامية، كما هو الحاصل مثلا فى الحالة المصرية، فإن فكرة العبث تلوح فى الأفق. إذ من حق أى أحد أن يسأل لماذا يكون التكليف الشرعى الموحى به متجها صوب مرشح واحد من ذوى المرجعية الإسلامية، ولماذا يحجب التصويت عن نظراء له لهم نفس المرجعية. وهل يجوز عقلا أن تصدر الفتوى محبذة التصويت لذوى المرجعية الإسلامية جميعا، الأمر الذى يمكن أن يشتت الأصوات بما يؤدى إلى سقوطهم وفوز غيرهم من ذوى المرجعيات الأخرى؟

 

الأمر كما رأيت محرج ودقيق، وقد يبدو فى بعض جوانبه مسكونا بالافتعال والتدليس الفكرى. وهو ما يعيد إلى الذاكرة مواقف وممارسات الحاخامات فى التجربة الإسرائيلية. ومشهورة فى هذا الصدد فتاوى الحاخام عوفاديا يوسف الزعيم الروحى لحزب شاس (اخترال لعبارة حزب الشرقيين المحافظين على التوراة) الذى قال فيها إن من لا يصوت لشاس فى الانتخابات ستحل عليه اللعنات لأنه لم يلب نداء الرب ــ وتصويتك للحزب سيجعلك تمثل مكانة مرموقة فى الجنة ــ وأن الذى يصوت لمنافسه ليبرمان (نائب رئيس الوزراء وزعيم حزب إسرائيل بيتنا) كمن يصوت للشيطان ــ وقد ألقى أحد رجاله (اسمه شمعون بعدنى) ــ موعظة فى معبد يزديم بالقدس المحتلة قال فيها إن الذين يصوتون لغير حزب شاس سيدخلون جهنم، أما أعضاء شاس فالنار محرمة عليهم إلى غير ذلك من الفتاوى التى تتاجر بالآخرة لتحقيق مكاسب سياسية فى الدنيا.

 

مبلغ علمى أن شئون المعاملات التى لم يرد فيها نص قرآنى يخرج التقدير والاجتهاد فيها من دائرة الحلال والحرام ليصبح شأنا يتم التفاضل فيه بين الصواب والخطأ. وغاية ما يمكن أن يبلغه الفقيه فى اجتهاده بخصوص تلك المعاملات أن يفتى بالاستحباب أو الكراهية، وليس له أن يستخدم معيار الحل والحرمة.

 

إن المشكلة التى تواجهنا فى المفاضلة بين المرشحين للرئاسة فى مصر أن أحدا منهم لا يستطيع أن يحدثنا عن إنجاز له على الأرض، لسبب جوهرى هو أن إنجازات العقود السابقة كانت كلها منسوبة إلى «السيد الرئيس»، إن لم يكن بتوجيه منه فباستلهام لحكمته. ولا نستطيع أن نعتبره إنجازا أن يؤدى المسئول عمله المفترض، كأن يبنى وزير الطيران مطارا أو يشق وزير التعمير طريقا أو ينجح وزير البيئة فى مكافحة السحابة السوداء. ذلك أن الموات السياسى لم يكن يسمح بأكثر من ذلك. فتلك كلها فى أحسن فروضها من علامات الكفاءة فى التنفيذ ولا تعنى بالضرورة نجاحا فى الإدارة السياسية لدولة كبيرة بحجم مصر ووزنها.

 

لأن سجل الإنجاز السياسى على الأرض ضعيف بالنسبة للجميع، فإن المبالغة فى استعراض مناقب المرشحين تصبح الصيغة المتاحة لجذب الناخبين، وفى هذه الحالة يلجأ المرشحون إلى دغدغة مشاعر الناس، فالقلقون المتوجسون يقال لهم إن المرشح هو الرجل القوى الذى سيوفر لهم الأمان، وسيقدم لهم رجل الدول الذى لا يشق له غبار. والمتدينون سيتم جذبهم بإعلان تقوى المرشح وورعه ومواصفات الرجل الربانى الذى تتوفر له.

 

مثل هذه المبالغات أفهمها، لكنى أحذر من دغدغة المشاعر الدينية، لأنها تفتح الباب لاستدعاء الهويات الدينية وتوظيفها فى التنافس أو التنابذ السياسى. والأهم من ذلك أنها تشوه الدين وتسىء إليه. ذلك أن معيار الاختيار المستقر فى التفكير الإسلامى ينحاز إلى صفتين أساسيتين وردتا فى النصوص القرآنية هى القوة والأمانة، (إن خير من استأجرت القوى الأمين) الآية 26 من سورة القصص ــ وأذكر هنا بأن النبى عليه الصلاة والسلام حين اختار دليلا من المشركين فى هجرته من مكة إلى المدينة، فإنه تحرى كفاءته وإخلاصه ولم يأبه بشركه أو اعتقاده، ونحن لا نريد فى الرئيس أكثر من أن يكون قويا وأمينا، علما بأن كل منسوب إلى النظام السابق مجَّرح فى أمانته.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved