سيناء هى المخطوفة

فهمي هويدي
فهمي هويدي

آخر تحديث: الثلاثاء 21 مايو 2013 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

نحن بإزاء قضيتين وليس قضية واحدة. قضية اختطاف سبعة من الجنود المصريين فى سيناء، وقضية اختطاف سيناء ذاتها من مصر. وحين نركز على الأولى دون الثانية فإننا بذلك نوجه اهتمامنا بالعرض وننصرف عن بيت الداء وأصل المرض.

 

(1)

 

 

 

خلال العامين الأخيرين بوجه أخص حفلت سيناء بالحوادث التى بدا الاحتكام إلى السلاح فيها واضحا، كما ظهرت فى الأفق مؤشرات الاشتباك مع السلطة وتحديها، ولا أعنى أن سيناء كانت ساكنة قبل ذلك، ولكن أعنى أن منسوب العنف وتحدى السلطة ارتفع بصورة أوضح بعد الثورة. إذ أزعم أن رياح التمرد ظلت تهب على سيناء طول الوقت بسبب السياسة الأمنية التى حكمت البلاد طوال العقود الأخيرة، والتى تعاملت مع أهالى سيناء باعتبارهم مشتبها بهم. إذ حين وقعت بعض التفجيرات فى المناطق السياحية (شرم الشيخ مثلا) فإن مدرسة «التمشيط» فى الجهاز الأمنى ساقت المئات من أبناء سيناء الأبرياء إلى السجون والمعتقلات، علها تجد الفاعلين بينهم. وهناك عاملتهم بصورة مهينة ووحشية لاستنطاقهم. متجاهلة أن هؤلاء ينتمون إلى قبائل وعشائر لا سلطان للدولة عليهم، الأمر الذى كان له دوره الرئيسى فى تنامى مشاعر النقمة على السلطة واختزان مشاعر الثأر والانتقام منها.

 

كان العم أمين هويدى وزير الحربية ورئيس المخابرات الأسبق يحتفظ بعلاقات طيبة مع عدد من شيوخ القبائل فى سيناء، منذ كان ضابطا فى سلاح الحدود. وظلت تلك العلاقات مستمرة معه إلى ما قبل وفاته رحمه الله فى عام 2009، وكانت له وجهة نظر فى التعامل مع سيناء خلاصتها انه منذ دخلت الشرطة على الخط وتحولت سيناء إلى حالة أمنية تولاها جهاز أمن الدولة (سابقا)، فسدت علاقة السلطة بالمجتمع السيناوى، حيث رأى الجميع هناك وجها فظا وغليظا للدولة المصرية لم يألفوه، فنفروا منه واشتبكوا معه بطريقتهم، وكان رأيه أن الجيش فى سيناء كان حارسا للحدود وودودا مع الناس، أما الشرطة فقد تعاملت معهم باعتبارهم متهمين واستخدمت معهم أساليب القمع. وكانت النتيجة ــ حسب تعبيره ــ أن تراجعت سلطة الدولة التى أصبحت جهازا قمعيا. وتنامت سلطة القبيلة التى أصبحت هى الحامية لأبنائها.

 

خلال السنتين الأخيرتين حفل سجل الاشتباك والتمرد بحوادث عدة، توالت على النحو التالى: تم قتل 16 ضابطا وجنديا فى رفح ــ هوجم معسكر القوات الدولية لحفظ السلام ــ ثم هجوم آخر على حى الزهور بالشيخ زويد ــ هوجم كمين للجيش فى منطقة العوجة أدى إلى إصابة سبعة من الجرحى ــ هوجم مصنع للأسمنت تابع للقوات المسلحة فى وسط سيناء ــ استشهد ضابط شرطة وأصيب أحد الجنود فى هجوم على قسم شرطة نخل ــ تعرض كمين للجيش للهجوم فى مطار العريش ــ وأخيرا تم اختطاف الجنود السبعة بالقرب من العريش.

 

 

 

(2)

 

 

 

طوال العقود الأربعة الأخيرة على الأقل التى أصبحت سيناء فيها مجرد حالة أمنية، ظلت تضاريسها الاجتماعية مجهولة لدى السلطة، علما بأن بعض تضاريسها الجغرافية أيضا غير معلومة إلا لأبناء سيناء الذين يحفظون دروبها وهضابها ومخابئها. وبسبب غياب السلطة فإن المعلومات ظلت شحيحة عن حقيقة ما يجرى فيها. آية ذلك مثلا أن انبوب الغاز الموصل لإسرائيل تم تفجيره 14 مرة دون أن يعرف بالضبط الأطراف الفاعلة فى تلك العمليات. وكان طبيعيا أن تنمو هناك بؤر التهريب والإجرام إضافة إلى الجماعات التى توصف بأنها سلفية أو جهادية. وفى حدود علمى فإن الأجهزة المعنية فى القاهرة كانت تدرك ذلك إلا أنها لم تكن تعرف شيئا عن الأحجام والأوزان فضلا عن الأماكن. وقيل لى مثلا أن هناك 16 بؤرة جهادية لكن أحجامها وأماكنها لم تكن معلومة على وجه الدقة.

 

بسبب الغموض الذى أحاط بمجمل الأوضاع والخرائط الاجتماعية فى سيناء فإن عددا غير قليل من المحللين والسياسيين فضلا عن وسائل الإعلام كانوا يستسهلون الربط بين سيناء وقطاع غزة فى خلط بين الجغرافيا والسياسة، حيث ظل الغمز دائما فى علاقة حماس بما يجرى هناك. لذلك فإن ما يجرى فى سيناء كان يرد عليه بإغلاق معبر رفح وتشديد حملة تدمير الأنفاق. وهو ما حدث هذه المرة، وتكرر فى أغلب المرات السابقة. بل إن بعض التصريحات الرسمية كانت تسارع إلى اتهام حماس بالضلوع فى أى حادث يقع فى سيناء. كما حدث عقب قتل الـ16 ضابطا وجنديا فى العام الماضى. وقد تم اتخاذ الإجراء ذاته بعد خطف الجنود السبعة، إذ أغلق المعبر بقرار إدارى، فضلا عن أن مجموعة من جنود الأمن المركزى توجهوا إلى المعبر لإحكام إغلاقه، ورفعوا شعارات معادية لحماس. بالتالى فقد كتب على قطاع غزة وحماس أن يدفعا ثمن الجوار وتدهور الأوضاع فى سيناء، ولولا أن كل القرائن دلت على أن حادث الاختطاف الأخير كان شأنا سيناويا خالصا، حتى باعتراف الخاطفين أنفسهم، لما استبعد المحللون والمنابر الإعلامية دور حماس والفلسطينيين فى الحادث. وهو ما سجلته تصريحات المتحدث العسكرى المصرى فى 17/5 التى قال فيها إنه لا علاقة لحماس أو غزة بالموضوع.

 

 

 

(3)

 

 

 

لا نستطيع أن نفصل الحاصل فى سيناء عن مجمل الأجواء المخيمة على مصر. إذ كما أن السياسة الأمنية التى عاشت فى ظلها البلاد ألقت بظلالها على علاقة السلطة بالمجتمع فى سيناء. فإن حالة الانفلات التى شهدتها مصر بعد الثورة وما استصحبته من جرأة على السلطة وتحد لهيبتها، وإهدار لمؤسساتها إلى جانب الإطاحة بقيم القانون والنظام العام، هذه أيضا كانت لها أصداؤها هناك، بل إننى لا أستبعد أن تكون تلك الأجواء قد شكلت عنصرا مشجعا على رفع منسوب التحدى والاستهانة بالسلطة فى سيناء. ذلك أن ما حدث هناك مؤخرا لا يختلف كثيرا عما نراه بصورة شبه يومية فى أنحاء مصر (القاهرة والإسكندرية والسويس وبورسعيد مثلا) مع اختلاف بسيط تمثل فى أن الذين تعرضوا للاختطاف هم جنود وليسوا مواطنين عاديين.

 

فى هذا السياق لا بد ان تثير دهشتنا مواقف النخب ووسائل الإعلام المصرية إزاء الحدث الأخير. إذ سارع البعض إلى توظيفه لصالح توجيه الاتهام إلى الرئيس محمد مرسى وتكثيف الهجوم عليه لتعزيز المواقع فى الاستقطاب الحاصل. وفى الوقت ذاته فإنهم فسروا الحادث باعتباره جزءا من مؤامرة. حيث تعددت تصريحات الناشطين السياسيين الذين دأبوا على القول بأن الرئيس مرسى هو المسئول الأول عمر جرى، سواء باعتباره قائدا عاما للقوات المسلحة لم يفعل شيئا لحماية الجنود، أو لأنه أصدر عفوا عن بعض المحكوم عليهم فى قضايا سياسية. ومنهم أناس اعتبرهم النظام السابق إرهابيين وهؤلاء التحقوا بسيناء وعادوا إلى نشاطهم القديم. ومنهم من قال إن الذين قاموا بعملية الخطف هم من إخوان وعشيرة الرئيس مرسى. وأبرزت إحدى الصحف قولا منسوبا إلى أحد ممثلى القوات المسلحة ذكر فيه أن الرئيس مرسى إما أن يثبت جديته فى التعامل مع الحدث وإما أن يستقيل من منصبه.

 

الذين تبنوا سيناريو المؤامرة قالوا إن خطف الجنود السبعة فى سيناء تم قبل 24 ساعة من مظاهرات الدعوة لإسقاط الرئيس مرسى، وربطوا بين الاثنين، وكأن الخطف تم بترتيب مسبق لصرف الانتباه عن المظاهرات. ومنهم من قال إن الخطف استهدف إحراج الجيش وتشويه صورته، بعد أن تعددت المطالبات فى الآونة الأخيرة باستدعائه لتسلم السلطة، بحيث تحول إلى منقذ للبلد، ولذلك جرت محاولة تجريحه وإظهاره بمظهر الضعيف والعاجز عن أداء وظيفته الأساسية.

 

الفكرة التى ترددت كثيرا فى هذا الصدد أن عملية الخطف بمثابة حيلة للتخلص من الفريق عبدالفتاح السيسى، تستلهم ما فعله الرئيس مرسى فى السابق حين وقعت حادثة قتل الـ16 ضابطا وجنديا فى رفح، وفى أعقابها أقال الرئىس الفريق طنطاوى وحل المجلس العسكرى. وجسدت إحدى الصحف الفكرة فى عنوان رئيسى على الصفحة الأولى ذكر أن «الإخوان ينتهزون الفرصة للإطاحة بالسيسى» ــ ونقلت صحيفة أخرى عما وصفته بأنه مصدر عسكرى قوله: الجيش لن يسمح بالإطاحة بالسيسى وسيناريو طنطاوى لن يتكرر تحت ذريعة خطف الجنود.

 

 

 

(4)

 

 

 

لى أربع ملاحظات على المشهد هى:

 

• أن التجاذب والصراع السياسى الحاصل فى مصر لم يسمحا بتوفير رؤية وطنية واضحة للتعامل مع الحدث. بل إن النخب السياسية ومعها المنابر الإعلامية المعارضة وظفوا ما جرى من أجل كسب المعركة السياسية التى يخوضونها. بحيث ما عاد السؤال المطروح هو كيف يحل الاشكال بحيث لا يتكرر ما جرى مرة أخرى، وتستعيد الدولة هيبتها فى سيناء؟ ــ بل بدا أن الفكرة التى ظلت مهيمنة طول الوقت هى: كيف يمكن استثمار الحدث فى إحراج الرئىس محمد مرسى وإضعاف صورته، بحيث توظف فى هدف سحب الشرعية منه وإسقاطه. وهو تحليل إذا صح فإنه يصبح كاشفا عن مدى الخلل الذى تعانى منه البيئة السياسية فى مصر.

 

• أن فكرة اختطاف سيناء وغياب السيادة المصرية الحقيقية على كامل أراضيها ــ وهى مسألة محورية فى الموضوع ــ لم تنل ما تستحقه من الذكر فى الجدل الدائر حول الحدث. كأنما شغل الجميع بالتفاصيل الراهنة عن الرؤية الاستراتيجية المتمثلة فى تلك الحقيقة الجوهرية التى تجنب كثيرون الخوض فيها. وأغلب الظن أن السكوت على مصدر البلاء وأصل الداء راجع إلى التخوف من إثارة الموضوع الذى لا بد له ان يفتح الأبواب للحديث عن اتفاقية السلام الموقعة مع إسرائيل. وما أسفرت عنه من أوضاع تحتاج إلى مراجعة من نظام ما بعد الثورة المصرية، وربما تصور هؤلاء أن فتح الملف له تداعياته التى يفضلون السكوت عليها ويؤثرون تجاهلها. مع العلم بأنه لا حل لمسألة التعامل الجاد مع الأوضاع المضطربة فى سيناء إلا بعودة السيادة المصرية كاملة على أراضيها. ولا سبيل إلى تحقيق ذلك إلا باعادة النظر فى اتفاقية السلام بما يجعلها لصالح الأمن المصرى وليس الأمن الإسرائيلى وحده.

 

• أننا فى اللحظة الراهنة أحوج ما نكون إلى أمرين أساسيين هما: إرادة سياسية شجاعة تتعامل بحزم مع مظاهر العدوان على هيبة الدولة وكرامتها، وتصارح الناس بما يجب فعله إزاء ما يجرى وبحقيقة الظروف التى تكبل يد السلطة وتحول دون تمكينها من الدفاع كما يجب عن المصلحة الوطنية العليا. الأمر الثانى يتمثل فى حاجتنا إلى معارضة وطنية واعية ومسئولة ترتفع فوق مراراتها وحساباتها لتعلى من شأن المصلحة الوطنية العليا، منحازة فى ذلك إلى فكرة المعارضة البناءة والإيجابية، وليس المعارضة الانقلابية التى ىشغلها هاجس واحد يتمثل فى إسقاط النظام بأقل الحلول مكانه، حتى إذا تم ذلك بأسلوب غير ديمقراطى.

 

• أخيرا فإننى أحذر من التعويل على الحل العسكرى والأمنى واهمال الحل السياسى. وأرجو أن نكون قد تعلمنا شيئا من دروس التعويل على الحل الأول وإهمال السياسة فى الموضوع، لأنه يخلف مرارات وتارات وضغائن تعقد المشكلة ولا تحلها، رغم أنه يبدو للوهلة الأولى أسهل وأجدى فى الحسم. ومشكلة الحل السياسى أنه يتطلب سياسة وحكمة وبعد نظر، وأخشى فى ظل الأوضاع الضاغطة الراهنة أن نتغاضى عن كل ذلك، بحيث نتبنى شعار القمع هو الحل. وأرجو أن يظل واضحا فى أذهان أصحاب القرار أن آخر الدواء هو الكى. وأخشى فى ظل الانفعال والتعبئة التى نشهدها أن نبدأ بما يجب أن ننتهى به.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved