القبلة الثالثة

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الثلاثاء 21 يونيو 2016 - 8:50 م بتوقيت القاهرة

بيروت مثل معظم عواصم العرب تتألم. عواصم العرب تعلن عن الألم بالصخب والصراع، أما بيروت فعلى غير عادتها تتألم فى صمت. تعلمت بيروت كيف يكون الألم مكتوم الصوت. تعلمت أيضا كيف تحاصر الألم وتقصره على قليلين ــ رأيت بيروت هذه المرة مختلفة قليلا عن المرات السابقة ــ كنت أراها ممشوقة القوام مشدودة الوجه والأرداف بشوشة ومتألقة وأحيانا مثيرة. تعودت أن أتجاهل ما لا يعجبنى فيما استجد، لا أرى الحزن فى عيونها والغضب فى بعض تصرفاتها. رفضت أن أصبح يوما محبا معترضا أو عاشقا محتجا.

***

لم أكن فى حاجة إلى أن التقى صديقا إنجليزيا وفيا للمدينة التى عرفناها معا لانتبه إلى أنها فى أماكن معينة تتشوه وجمالها ينحسر، أخذنى إلى منطقة خليج الزيتونة معتبرا إياها النقيض الحى لعقيدتنا البيروتية. دقائق معدودة كانت كافية لاقناعنا بالابتعاد عن هذا الجانب من المدينة وإشعاعاته الباردة عاطفة ومعمارا ومشاعر إنسانية، وعودتنا إلى جوانبها الناعمة وسكانها الطيبين، نقضى فى جنباتها وبين أحضانها ما تبقى لنا من ساعات فى لبنان.

***

ما أحلى أن تجد فى ثنايا النبأ المؤلم ما يفرح ويسعد. سمعت وأنا فى القاهرة نبأ القنبلة التى انفجرت فى أحد مصارف حى الفردان، وما هى إلا لحظات حتى تلقيت عبر الأثير عشرات التنبيهات والتوصيات بأن أؤجل سفرى، فالانفجار قد يكون الأول فى سلسلة تنتهى بحرب أهلية أخرى، اضطر معها إلى الانحباس فى بيروت أياما وربما أسابيع كما حدث فى الحرب الفائتة. وصلت وطلبت التفاصيل لاكتشف أن الجهة التى وضعت القنبلة اختارت لانفجارها يوم أحد وساعة إفطار لتضمن خلو المصرف من المتعاملين وخلو الطريق من المارين.

تجربة جديدة فى مسيرة العنف، تجربة إرهاب تدغدغه عواطف نبيلة، تجربة ألم مسكناته «منه فيه» كما نقول فى مصر، هكذا تنتفى الحاجة إلى اكتمال الغضب وتتويجه برغبة فى الانتقام والأخذ بالثأر. اطمأن الجميع إلى أن الرسالة وصلت فى هدوء وبدون صخب.

* * *

توقعت أن أسمع الصخب فى مكان آخر وبسبب آخر، رحت متشوقا للاستماع إلى ردود فعل سقوط «إمبراطورية الحريرى»، أن تسقط إمبراطورية مالية فى أى دولة فهذا فى حد ذاته أمرا جللا، فما بالك إذا كانت وشائج هذه الإمبراطورية وعلاقاتها بالنظام السياسى ومنظومة الطوائف والنظام الإقليمى عديدة وكثيفة ومتعددة. شبكة الآلام لاشك واسعة، وواسعة أيضا شبكة التوقعات، هكذا كانت على ما يبدو نهاية اعتماد المملكة السعودية على شخص أو عائلة تقود حلفا يوحد كل الطوائف ضد الشيعة فى لبنان، أو على الأقل وبكلمات «صحيحة سياسيا» ضد حزب الله. السقوط يعنى أيضا سباق بين عديد الإمبراطوريات الصغيرة التى تسعى لتتقاسم فيما بينها وبإشراف خارجى إرث امبراطورية الحريرى من نفوذ وقواعد شعبية وجيوش المنتفعين مثيرة ولا شك ستكون أجواء بيروت السياسية والإعلامية خلال الأيام القليلة المقبلة.

* * *

رأيت الألم فى موقع آخر، رأيته فى عيون إعلاميين كبار وصغار يتابعون بكل القلق المختزن تراجع توزيع الصحف الورقية فى لبنان. يدرك البعض منهم كما أدرك، أنه كارثة وطنية، وهو أيضا كارثة قومية إذا أخذنا فى اعتبارنا التراجع المذهل فى توزيع الصحف الورقية فى مصر. يوزعون فى لبنان المهد المهاجر لمهنة الصحافة ما لا يزيد عن عشرين ألف نسخة يوميا. على كل حال لن يكون انحسار الصحف العربية أول ولا آخر كوارثنا القومية، نتألم طبعا. نفقد كل يوم قارئا. نفقده كما كنا نفقد كل يوم قطعة غالية من أرض الوطن عاقدين العزم على استردادها. هو الألم المرتفق دائما بالرغبة، الرغبة فى الاسترداد بالإصرار والتحدى والتجديد.

* * *

مثل غيرى من عشاق لبنان، أتألم حين يتألم اللبنانيون وارتاح لأساليبهم فى تخفيف آلامهم وإن وجدت صعوبة فى تقليدها ونشرها خارج لبنان. أخص بالذكر القبلة الثالثة. كتبت فى هذا المكان قبل أسابيع عن ظاهرة لمس الآخرين عند التحادث وعن اختلاف أساليب المصافحة وتبادل التحية عند الشعوب. كتبت عن شعوب تصافح من بعيد فلا لمس ولا تلامس، وشعوب تصافح بوضع اليد على كتف الآخر وأخرى بتقبيل الأنف وثالثة بالانحناء عن بعد وتبادل بطاقات الزيارة. فى مصر نحن نصافح باليد ونحتضن ونتبادل تقبيل الوجنتين، قبلة سريعة على هذا الخد ثم ذاك. ولا مانع من أن مد اليد بين الحين والآخر لنلمس موقعا أو غيره فى جسد المتحدث إليه.

حاولت على امتداد عقود عديدة وزيارات متكررة للبنان أن أدرب نفسى على إضافة القبلة الثالثة من تلقاء نفسى وبدون إيعاز أو تشجيع، ولم أفلح.

لم اكتشف حتى اليوم وظيفة القبلة الثالثة، أعرف جيدا أنها طقس لا يجوز للبنانى أو عربى تجاهله، ولكنى أعرف أيضا أنك إن نسيت أو حاولت التفلت من القبلة الثالثة، ففى الغالب سيكون نصيبك «شدة» عنيفة تجرك جرا إلى أحضان شخص يرحب بك رجلا كان أو امرأة.

***

لم أفلح فى أن أجعلها نمط تحية أمارسه فى لبنان كما فى غيره، رغم أننى صرت أشعر فى كل مكان أذهب اليه أن التحية لا تكتمل إلا بالقبلة الثالثة. أعرف الآن أن هذه القبلة دون غيرها هى التى تمحو فى النهاية آثار ملل من اجتماع طال انعقاده، وهى أيضا التى تخفف من توقع ألم الفراق بعد زيارة طال انتظارها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved