قراءة عن بعد فى تجربة الإخوان

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الأربعاء 21 أغسطس 2013 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

«نحكم مصر أو فلتذهب البلاد وأهلها إلى الجحيم»! هذا هو شعار جماعة الإخوان المسلمين الذين يحاولون تحقيق مضمونه، هذه الأيام، وهذه دلالات سلوكهم فى «الشارع» الذى أسقطهم من سدة الحكم التى كان قد رفعهم إليها فى مصادفة قدرية.

لم يشهد التاريخ تجربة أشد بؤسا من تجربة الإخوان مع السلطة.. فهم قد خسروا فى زمن قياسى ما لم يكونوا يحلمون به عبر تاريخهم الطويل فى نشاطهم السياسى، بجانبيه: السرى والذى اتسم بالتواطؤ واللجوء إلى الاغتيالات أو العلنى حين استرهنهم نظام السادات ثم نظام حسنى مبارك لكى يواجه بهم كل منهما جمهور معارضيه، وتنفيذ ما يخالف إرادة شعب مصر ومصالحه.

مع ذلك لم يتوقف الإخوان لحظة لمراجعة تجربتهم البائسة ولطرح السؤال على أنفسهم، ولو على مستوى القيادة: لماذا خسرنا هذا «الشارع»، ولماذا فقدنا ثقته بهذه السرعة القياسية، وكيف لم ننتبه إلى خيبة أمله التى انقلبت ثورة غضب أخرجت ملايينه العديدة تنادى بسقوطنا فى بعض أعظم التظاهرات حشدا فى التاريخ الإنسانى؟!

بل إنهم يرفضون أن ينتبهوا إلى ما يتسبب فيه نزولهم إلى الشارع، وبالسلاح أحيانا، وامتناعهم عن الاعتراف بأنهم لم يعرفوا كيف يربحون فكانت النتيجة أن خسروا الدنيا والآخرة.

لقد فشلوا فى أن يكسبوا تأييد شعبهم وكذلك فشلوا فى كسب ثقة الشعوب العربية التى تتطلع إلى مصر كقيادة تاريخية لأمتها وخسروا وأفقدوا مصر بعض احترام دول العالم، حين توسلوا المساعدات، ولم يفدهم نفاقهم دول النفط العربى فى كسب تأييدها بل لعلهم قد استفزوا قياداتها حين حاولوا اللعب عليها وتظهير انحيازهم لبعضها فى مواجهة الأكبر والأقوى بقدراته وبموقعه و«بصداقاته» الدولية.

●●●

لقد كشفوا مصر وكادوا يقدمونها إلى العالم كدولة متسولة تقف على أبواب صندوق النقد الدولى وعلى أبواب الاتحاد الأوروبى، مستجدية القروض والمساعدات.

وها هو «العهد الجديد» يدفع الثمن من رصيد مصر، تارة بذريعة أن الحكم اليوم هو انقلاب عسكرى مع تجاهل الحشد التاريخى الذى كاد يختصر ــ بملايينه ــ شعب مصر جميعا وهو ينزل إلى الميادين والشوارع فى جهات مصر الأربع معلنا رفضه حكم الإخوان ومناداته بسقوط «الرئيس» الذى قدم ــ بشخصه كما بسلوكه ولا سيما بخطاباته المستفزة ــ أسوأ نموذج لحكم مفلس، قمعى، وجاهل فى السياسة كما فى الاقتصاد والثقافة بالآداب والفنون الجميلة وكأنه آت من خارج التاريخ الإنسانى الحديث.

بالمقابل فإن «الخارج» قد باشر محاولاته لأن يلعب دورا متزايدا فى خطورته على استقلال القرار الوطنى المصرى، مستثمرا لجوء الإخوان إلى المواجهة الدموية مع العهد الجديد، بكل ما تتضمنه من أعمال تخريب للمنشآت العامة وتعطيل لحركة الإنتاج، ومحاولات لإثارة الفتنة الطائفية بالهجمات المنظمة على الكنائس ودور العبادة الخاصة بالأقباط وسائر المسيحيين.. ثم المساجد بعد القرار الهمايونى بالاعتصام فيها وإدخال السلاح إلى حرمها فى تصرف طائش يعبر عن اليأس بقدر ما يعبر عن الاستهانة بمواقف الشعب فضلا عن دمائه.

وها هى الولايات المتحدة الأمريكية تحاول «ترويض» الحكم الجديد، فتوفد كبار مسئولى الخارجية «لمحاورة» قادته الأساسيين وأعوانهم من «الخبراء» واستكشاف نواياه وسياساته.. ثم تلجأ إلى خبيرها المحلف فى التواطؤ، بشهادة تجربة لبنان، السفير جيفرى فيلتمان المموه الآن بغطاء المنظمة الدولية، بوصفه نائب الأمين العام لشئون الشرق الأوسط، بأمل استغلال حاجة مصر إلى «الاعتراف الدولى» بغير شروط، وقبل أى حديث فى المساعدات.. لا سيما بعدما نجحت بعض الدول التى تدور فى الفلك الأمريكى فى «عرض قضية مصر» أمام المنظمة الدولية، ولو بشكل متعجل وطارئ وبغير قصد الوصول إلى قرار حولها.

بالمقابل تندفع دول النفط العربى إلى محاولة تطويع الحكم الجديد بإغراء المليارات من الدولارات، كما بالتطوع للترويج له فى عواصم القرار. وهذه زيارة وزير خارجية السعودية إلى فرنسا ودفاعه فيها عن ثورة مصر وعن العهد الجديد فيها تتجاوز «الثأر» من الإخوان كخصوم تاريخيين للنظام السعودى إلى محاولة التقدم للنطق باسمه وتحديد هويته.. وهكذا وجد الفريق السيسى أن لا بد من الشكر فاتصل بولى العهد السعودى لإظهار الامتنان.

أما على الضفة الأخرى فإن الروس ومعهم الصينيون ينتظرون التطورات، خصوصا أن الرئيس المخلوع كان قد زار كلا من موسكو وبكين وأطلق فى كل منهما الوعود والتعهدات التى يعرفون أنه لن يفى بها والتى ربما كان يريد عبر زيارتيه الخاطفتين إليهما استدراج عروض من «الأصدقاء الأمريكيين» مباشرة أو عبر وكلائهم فى الاتحاد الأوروبى.

●●●

لقد فشل الإخوان فى حكم مصر، بعدما ركبوا ثورتها (الأولى) بالمناورات والخديعة والتواطؤ مع المجلس العسكرى الأعلى، وها هم الآن يحاولون الانتقام عبر مواجهة ثورتها (الثانية) بفرض مواجهة فى الشارع، وبالسلاح أحيانا، والتقصد فى تخريب منشآتها وإثارة الاضطراب فى أنحائها والإساءة إلى سمعتها عربيا ودوليا.

لم يتحمل هذا التنظيم العريق إخراجه من سلطة وصل إليها بالمصادفة وهو الذى أمضى معظم تاريخه الطويل (أكثر من ثمانين عاما) فى الظلام، وتورط أحيانا فى اغتيالات سياسية، وناور وخادع وحالف أنظمة ما بعد جمال عبدالناصر على قاعدة « عدو عدوى صديقى» فنال جوائز ترضية هامشية.

لقد دخل قادة «الجماعة» عالم الأحلام، واندفعوا يبنون عالمهم الافتراضى متجاهلين طبيعة المجتمع المصرى وقواه الحية وبالذات منها تلك التى تلاقت فى الميدان وصمدت فيه مواجهة رصاص الطغيان والمخادعة حتى إسقاط نظام حسنى مبارك.. ولقد نجحوا فى مناوراتهم، خلال المرحلة الانتقالية، حتى تمكنوا من القفز إلى سدة الرئاسة، فاطمأنوا وكشفوا عن شبقهم إلى السلطة، بل وإلى الانفراد بها متجاهلين السابقين إلى الميدان من شباب مصر وقواها الحية.

لكأنهم عاشوا، لفترة، سكارى بالسلطة فى عالم افتراضى بنوه بشبقهم إلى حكم مصر، ومن ثم الانطلاق منها إلى ما بعدها، متكئين على «رفاقهم» من إخوان تركيا الذين يستمتعون بالحكم ويحلمون باستعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية، ومعززين بنجاح «رفاقهم» فى تونس فى مصادرة السلطة بمشاركة رمزية لقوى شعبية أخرى. وربما كان بين أسباب السكر، أيضا، وعود قطر التى كان حكمها، بأميرها السابق حمد بن جاسم بن خليفة و«لسانه» حمد بن جاسم، قد أغوى الإخوان بالخطأ ثم بالخطيئة، استنادا إلى فتاوى الشيخ القرضاوى وتعهداته بالتأييد الحاسم من طرف التنظيم الدولى للإخوان المسلمين ووضعه إمكاناته الهائلة تحت تصرف الحكم الإسلامى فى مصر...

●●●

لعل التجربة المحدودة فى غزة قد أغوتهم وزينت لهم أنه بالإمكان مخادعة الناس بشعار التحرير بينما السلوك العملى يهادن العدو الإسرائيلى عبر تقديم هدية ثمينة هى انقسام الشعب الفلسطينى من حول «السلطتين» فى رام الله وفى غزه وطمس قضية التحرير.

لكن ذلك كله قد غدا الآن من الماضى.. وهذا الماضى الذى لما ينتهِ هو الذى يعطل الحكم ويسيء إلى صورة مصر والى دورها الذى لا يعوضه غيرها فى منطقتها.

بالمقابل فإن إصرار الإخوان على المواجهة الدموية يحسم من قدرة العهد الجديد على تجاوز الماضى لاستكمال بناء مؤسسات الديمقراطية التى ضربها حكم الإخوان ويؤخر سلوكهم فى الشارع الآن موعدها مع شعب مصر وهى اخطر عناوين ثورته.

إن سلوك الإخوان فى استفزاز الإرادة الشعبية ورفض التسليم بأن تجربتهم فى السلطة قد انتهت وأن عليهم أن يراجعوا أنفسهم ولا يضيعوا الفرصة التى ما تزال متاحة لتحديد خسائرهم، يعطل مسيرة الديمقراطية ويفرض حالة طوارئ فى البلاد عامة، موفرا للجيش مساحة واسعة فى القرار.. لا سيما بعد ظهور السلاح، وبعد تنفيذ التهديد الإخوانى بتحويل سيناء إلى جبهة مقاتلة ضد «حكم الانقلابيين» وهذه مذبحة رفح تؤكد الاندفاع إلى تنفيذها هذا التهديد.

وهذا قد يتخذ ذريعة فى واشنطن وفى عواصم أوروبية عديدة للتحفظ، ولمحاولة استغلال «أزمة العهد الجديد» فى وضع شروط على تأييده.

ويبقى أن أخطر ما يمكن أن تواجهه مصر أن يرى الجيش فى نفسه الحل، فيرتكب خطأ أفدح من خطأ الإخوان.. وهذا ما يستبعده محبو مصر والمقدرون لدور الجيش فى ثورتها الشعبية المجيدة.

 

رئيس تحرير جريدة «السفير» اللبنانية

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved