من محاسن الصدف

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الثلاثاء 21 أغسطس 2018 - 8:50 م بتوقيت القاهرة

تطلبه على الهاتف فيأتيها تهليله قبل رنين هاتفه، أو هكذا ظنت ذات مرة وصدقت فى المرة التالية. أنت تقرأ نيتى قبل إعلانها. كيف عرفت أننى أطلبك فترد على اتصالى بهذه السرعة. يجيب حبيبها: أتحرك من فراشى أو مقعدى فى اتجاه هاتفى لأتصل بك وفى منتصف السكة أسمع الرنين فأعرف أنه أنت التى تطلبين. أعرف أن أصدقاء عديدين لا يصدقوننى عندما أصف لهم ما يحدث لنا أو بيننا عندما يفكر أحدنا بالآخر. أنا أيضا لا أصدق أن هذا الذى يحدث وراءه معنى أو قوى خفية. ولكنى أصدق أنه لا يجوز أن نرفضه كلية أو نعتبره مجرد صدفة.
***
حملت حقيبة حشرت فيها بعض أهم ملابسها وأغراض زينتها والرواية التى لم تكن انتهت من قراءتها، وعلى ذراعها علقت حقيبة يدها وراحت تجوب الشقة تطفئ الأنوار وتتأكد كعادتها من إغلاق مفتاح الغاز واتجهت إلى ناحية باب الخروج. لم يفتها أن «تتربس» باب الشقة بكل ما أوتى من أقفال وأحزمة حديدية. مشت نحو المصعد بخطوات ثابتة وأمام بابه الأثرى العتيد تركت حقيبة الملابس تفر من قبضتها وتستقر على الأرض. مدت أصبعها إلى الصلب المزخرف باحثة عن زر أحمر صغير تستدعى به المصعد. وبالفعل استدعته بدليل ما أصدره من ضجة ألفها السكان. رن المحمول فى حقيبتها. لم تتجاهله. نظرت فى شاشته فوجدت رقما لا تعرفه. لم ترد. انتهزت فرصة وجود المحمول خارج حقيبتها وبطء المصعد فراحت تطلب خدمة الأوبر. سجلت الرقم إلا أن الاتصال لم يتم. قبل أن تعيد الطلب رن الهاتف رنينا بدا لها ملحا وليس كالعهد به هادئا متزنا. نظرت إلى شاشة الهاتف قبل أن ترد. نفس الرقم الذى طلبها قبل دقائق.
مرت لحظات ليست كاللحظات. قالت لنفسها أنا لست فى مزاج التحدث مع غرباء ولا حتى أقرباء. أنا زوجة قررت أن تطلق نفسها من زوجها. اليوم ليس هو أتعس الأيام كما يكتبون ويروجون. أنا لم أتسرع فى اتخاذ قرارى فقد تدهورت حالتنا الزواجية من مسايرة إلى تأقلم إلى إهمال فتباعد إلى نفور ثم إلى اشمئزاز واحتقار. استشرت من أثق فيهم واستخرت وانتهى الأمر. أنا راحلة ولن أعود. آلو.. آلو.. من هناك. جاء الرد. اعتذر عن إزعاجى لحضرتك وأتمنى أن تغفرى لى ما فعلت. أشعر أنك من نوع يتفهم ويغفر. لا تسألينى كيف عرفت أنك من هذا النوع. لن يصدقنى أحد غيرك. أنا سيدة مؤمنة. وكسيدة مؤمنة لا يمكن أن أتجاهل حقيقة أننى أطلب شقيقتى وأنت التى تجيبين. أنا امرأة محشورة فى لحظة مصير. تزوجت عن حب وكونت عائلة وتدخلت عوامل التعرية التى تفعل فى الزواج ما تفعله عوامل التعرية فى الطبيعة. تأتى مرحلة فى الزواج بعد مرحلة. كل مرحلة مختلفة عن سابقتها. نتعب فى كل مرحلة ونحن نحاول التأقلم معها. مللت حياتى فتركت. عشت وحدى شهورا غير قليلة. اليوم اتخذت قرارى. أنا اليوم أعود فالحياة خارج بيت وعائلة ومسئولية حياة صعبة لا يقوى عليها إلا إنسان مغامر، وأنا لست مغامرة. أنا راجعة إلى بيت الزوجية فبكائى على مخدتى وفى فراشى أكرم من بكائى فى فراش غريب.
المصعد وصل وينتظر. الحقيبة فى مكانها لم تمتد إليها يد لترفعها استعدادا للنزول، وعندما امتدت إليها اليد كانت لترفعها تمهيدا للعودة إلى الشقة. لا، هكذا راحت تردد وهى تفتح قفلا بعد قفل، لا. هذه ليست صدفة. أو هى صدفة وراءها معانى عميقة وحملت لى رسالة هامة. هذه السيدة على الطرف الآخر من المحادثة لم تكن تعرفنى ولم تسألنى عن اسمى. أنا سمعتها حتى انتهت من حكايتها ولم أسالها من أنت. لا شك عندى الآن أن وراء هذه الصدفة قوة خارقة لا نعرفها، وحقا لا أريد أن أعرفها.
****
أنا أيضا لا أريد أن أعرفها. قالها صديقى بعد أن استمع إلى ما نقلته له زميلة عزيزة. واستطرد مضيفا، الصدفة، هى نفسها، كالجاذبية قوة أساسية فى هيكل قوى هذا العالم. لا تحاولوا فك شفرتها. تذكروا دائما أن تواتر الأمور لا يحكمه منطق وكثيرا ما تنشأ صلات قوية بينها تدخلها أحيانا فى عالم الدين والمعجزات مما يجعلها مثيرة ومسلية. لا تسألوا. أخشى إن سألتم أن تنزعوا عن القصة قوة الأسطورة أو إعجاز الدين فتفقد سحرها وجاذبيتها. بعض الغرام والجمال وروعة معانى الحب تطرده أحيانا كثرة الأسئلة. قيل إن الشاعر جون كيتس كتب ينتقد محاولات إسحق نيوتن تفكيك قوس قزح علميا ليفهمه أهل العلم. قوس قزح وظواهر أخرى وصدف عديدة فى حياتنا هى زفرات حب تطلقها طبيعة مغرمة بالإنسان الذى يعيش فى كنفها وينعم بمتعها ويرضى بأفضالها. هى لمتعة الإنسان فلماذا الانشغال بأسرارها وأسبابها؟
***
تطوع رجل فى الهند بنبوءة تخصنى. قال سترحل عن الهند ولكن ستعود إليها قريبا جدا فى ظرف سيئ. وفى مطار هونج كونج قرأت فى الصحيفة نصيحة بعدم السفر هذا اليوم وعلى هذه الطائرة. تحققت النبوءة وتحقق التحذير وحتى اليوم لم أسال عن مغزى هذه الصدفة أو تلك. كذلك السيدة التى اتخذت قرار الطلاق وعادت عنه بسبب محادثة هاتفية لم تسأل أو تشكك فى معنى الصدفة التى جمعتها مع سيدة أخرى كانت مطلقة وعادت عن الطلاق. كم تواعدنا ونحن فى مقتبل المراهقة على أن تلتقى أرواحنا عند تمام منتصف الليل بتوقيت مناسب، أحدنا فى القاهرة والآخر أو الأخرى فى أمريكا، وتلاقت الأرواح ولم نسأل. ما أكثر ما شاهدنا قوس قزح وعشنا لحظات مع جماله ومعجزة تناسق ألوانه ولم نهتم لنسأل حتى عندما ألقمونا الإجابة عن سؤال لم نسأله. كم خرجنا إلى الطبيعة فى ليل مصر الساحر لنستلقى ساعات نشوى نشاهد سماء مزركشة بمختلف الأضواء والألوان أو قمر مكتمل تخجل النجوم من جماله فتتوارى. لم نسأل عن علاقة هذا الجمال بالرسائل الحلوة التى وصلتنا وحملناها معنا فى العودة وبعضها عاش معنا عقودا وبعض آخر خلف فى قلوبنا آثارا باقية إلى اليوم. لم أسأل ولا أسأل ولن أسأل.
يكفينى أن أشعر أن وراء كل صدفة قوة خفية أو حب عميق أو قدر وسماء وملائكة. حقيقة لا أريد أن أعرف أيها كان وراء حدث بعينه أسعدنى يوما أو غير حياتى وأهلنى لأكون أنا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved