حوار عتيق مع أمير قطر في ضوء وقائع الحاضر : واشنطن كبوابة للعبور من الانتماء العربي إلى إسرائيل

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الأربعاء 21 أكتوبر 2009 - 9:07 ص بتوقيت القاهرة

 قبل عشر سنوات أو يزيد، تفجرت أزمة سياسية حادة بين «دولة قطر» والمملكة العربية السعودية، بسبب خلاف على منطقة «العيديد» الواقعة على «الحدود» بين البلدين، والتى كانت تشكل نقطة الاتصال البرى الوحيدة بين قطر ودولة الإمارات العربية المتحدة..

تفاقم الخلاف بين البلدين الشقيقين اللذين يكاد شعباهما أن يكونا واحدا، لأن القبائل فيهما تتحدر من أصول واحدة، فالعائلات أقارب أو أنسباء، والمنبت واحد وإن اختلفت المواقع التى استقر فيها النازحون طلبا للماء والكلأ.

تبادل المسئولون التهديدات، وساد جو «حربى» فى المنطقة التى تختزن أرضها ثروات هائلة فى حين يتفجر شاطئها بثروات أسطورية من الغاز..

فجأة تم تجميد الأزمة بسحر ساحر، وكانت الصورة المعبرة عن الخاتمة السعيدة:

مصافحة بين وزير خارجية قطر ووزير خارجية إسرائيل، آنذاك، شيمون بيريز فى واشنطن، لتليه فى الغد صورة كاشفة للحقيقة تمثل وزير خارجية قطر ضيفا محتفى به فى وزارة الخارجية الأمريكية بواشنطن.

كانت المفاجأة صاعقة، خصوصا وقد تلاها الإعلان عن افتتاح «مكتب تجارى» لإسرائيل فى الدوحة، عاصمة قطر.

******

كنت اعرف أمير قطر، الشيخ حمد بن خليفة. فلقد التقيته غير مرة وهو ولى للعهد، ثم بعد أن خلع أباه ليتولى السلطة رئيسا للدولة وإلى جانبه صديقه الأثير الشيخ حمد بن جاسم.. وكان قدم نفسه كقومى عربى، يرفع فى مكتبه صورة للقائد الراحل جمال عبدالناصر، وتكسو صوته رنة حزن حين يتحدث عن تراجع حركة الثورة العربية وعن عودة الهيمنة الأجنبية لتفرد ظلها فوق الأرض العربية.

كنا نحاول، عبثا، أن نفهم سر هذه الحركة المباغتة التى تكسر محظورا ظلت القيادات العربية تتجنب كسره خوفا أو تهيبا، لاسيما بعد النهاية المأساوية لمغامرة الرئيس المصرى السابق أنور السادات فى زيارة «دولة العدو»، إسرائيل، وفى التوقيع على معاهدة الصلح معها، وهى التى انتهت ــ مأساويا ــ باغتياله صباح 6 أكتوبر 1981 وخلال العرض العسكرى لمناسبة الذكرى الثامنة لذكرى العبور ــ حرب أكتوبر المجيدة فى 1973.

وباغتنى أمير دولة قطر باتصال قال فيه ما مفاده إنه لن يلومنى ولن يعتب علىّ مهما قلت فيه هجوما على فعلته وإدانة لمسلكه، ولكنه يطلب أن أزوره لساعات حتى أسمع منه، مباشرة، عذره أو تبريره لهذا الاختراق للمحظور.

ذهبت إلى الدوحة، فعلا، وجلست إلى الشيخ حمد استمع إليه. قال: «لم تكتف السعودية بأرضها التى بحجم قارة، بل طمعت بهذا الشريط الحيوى من أرض إمارتنا الصغيرة الذى يربطنا بدولة الإمارات، وحشدت جيشها، وهددتنا، فخفنا أن تقدم على مغامرة لا قبل لنا بمواجهة أعبائها. وهكذا فقد توجهنا إلى واشنطن نطلب تدخلها، فأعرضت عنا.

قلنا: لعلنا الأفضل أن نحرجها فنخرجها.. وهكذا تحرشنا بإيران، وأرسلت وفدا كبيرا إلى طهران فرحبت به قيادة الثورة الإسلامية، وعقدنا اتفاقات، وأطلقنا التصريحات الودية. لكن واشنطن لم تتحرك. فكرنا، وقررنا أن نستفز واشنطن، فأرسلنا وفدا كبيرا إلى صدام حسين. لكن الإدارة الأمريكية لم تتحرك.. ثم فوجئنا بها تتصل لتبلغنا أن بوابتنا إليها هى إسرائيل، وليس أى مكان آخر، فإن نحن شئنا رعايتها فعلينا أن نفتح الباب لعلاقات جدية مع الحكومة الإسرائيلية!».

وختم الشيخ حمد حديثه التبريرى بالقول: «وبالفعل أرسلت وزير خارجيتى فالتقى شيمون بيريز، وعندما عاد إلى فندقه وجد من يبلغه بموعده فى وزارة الخارجية الأمريكية. كانت الرسالة واضحة: بوابة واشنطن إسرائيل، ادخلوها تصلوا إلينا!».

******

لم أقتنع بطبيعة الحال بهذا التبرير الذى سرعان ما حول «العيديد» ــ نقطة الخلاف مع السعودية ــ إلى أكبر قاعدة عسكرية أمريكية فى الشرق، والذى فتح أبواب قطر أمام إسرائيل، ممهدا لانفتاح «دول» أخرى فى الخليج العربى،على رأسها سلطنة عمان، أمام الاجتياح الإسرائيلى، بينما تغطى دماء الفلسطينيين أرض بلادهم التى تغصب منهم لتمنح لوحوش المستعمرين المستقدمين من أربع جهات الأرض ليقيموا مستوطناتهم فوقها، طاردين أهل الأرض من أرضهم إلى التشرد فى الشتات.

وكان بديهيا ألا تقنعنى هذه الذرائع التى تحول الأخ الشقيق إلى عدو وتفتح للعدو البيت العربى، فى حين أن إسرائيل كانت آنذاك لا تزال تحتل بعض لبنان وتقاتل شعبه الذى وقف صامدا خلف مقاومته حتى انتصرت إرادته وتم تحرير المحتل من أرضه فى 25 مايو العام 2000.

لماذا هذه الاستعادة لحكاية قديمة عفا عليها الزمن وغطت عليها وقائع هائلة بدلت خريطة منطقتنا، وكادت تبدل طبيعة العلاقات بين شعبها الواحد، أو شعوبها الشقيقة وذات المصالح المشتركة؟!

إن دلالات هذه الواقعة خطيرة، وبينها:

إنه صار من السهولة بمكان أن يقدم أى حاكم عربى على الاستعانة بالعدو القومى (إسرائيل) على شقيقه العربى، مبتدعا لنفسه مجموعة من التبريرات التى لم تكن مقبولة فى أى يوم مضى، متى رأى أن مصلحة عرشه أو رئاسته تقتضى مثل هذا التحالف المحرم للحفاظ على حكمه.

لقد صارت السلطة فى موقع منفصل تماما عن الشعب، وبديهى أن تفترض أن مصالحها تتقدم على مصلحة الوطن وشعبه ودولته، ولا مانع من خرق المحرمات وإسقاط العداوات (الوطنية والقومية) من أجل حماية السلطة.

صار النظام يهتم، أولا وأخيرا، بسلامته، فالدولة تتحول إلى رهينة لديه فى ظل التغييب الشامل للشعب.

يصير الشعب مصدر الخطر، إن هو حضر هدده النظام بتفكيك الدولة، ولكى يضمن النظام سلامته فانه يلجأ إلى ما يعتبره مصدر الأمان، أى الأمريكى والإسرائيلى، ولأسباب تتصل بقوته متعددة القواعد والأسلحة فى منطقتنا.

وهكذا فان النظام يتنازل لإسرائيل عن عروبته، أى عن التزامه بهويته التى عنوانها فلسطين، سالكا المعبر الإلزامى وهو الإدارة الأمريكية.

أى إن الخروج من العروبة وعليها هو خروج من فلسطين وعليها، وبوابة العبور إلى الإدارة الأمريكية هى ــ دائما ــ إسرائيل.

هذا كان من زمان..

ويومها كانت الإدارة الأمريكية تشترط لاستقبال طالب النجدة من أهل النظام العربى أن يعبر من البوابة الإسرائيلية.

أما اليوم فإن كثيرا من أهل هذا النظام العربى لم يعودوا بحاجة إلى الشفاعة الأمريكية للوصول إلى إسرائيل، بل إنهم يتصلون مباشرة بإسرائيل، فضلا عن أن بعضهم ينسق مباشرة معها وأحيانا يعينها على الإدارة الأمريكية بتزكية موقفها، مما قد يحرج واشنطن إذ يظهرها وكأنها متحمسة للعرب وقضاياهم أكثر من بعض العرب، وبالتالى أكثر تشددا من إسرائيل ذاتها.

وبديهى أن ما ينقص من عروبة أى نظام عربى إنما يخصم من قضية فلسطين ويضيف إلى رصيد إسرائيل فى هذا الصراع المفتوح على هوية هذه المنطقة من العالم ومستقبل شعوبها، أى حقهم فى الحياة الكريمة.

بهذا المعنى فليس الفلسطينى وحده، من بين العرب، من يفتقد دولته التى لا تزال فى ضمير الغيب.

يكاد كل عربى، وأى عربى، يفتقد «الدولة» فى كيانه السياسى، ويفتقد الوطن فى كليهما.

إن السلطة لا تعنى، بالضرورة، الدولة. والدولة، ككيان سياسى، لا تعنى بالضرورة الوطن. وما أكثر السلطات فى بلادنا وما أقل الدول!

بهذا المعنى فقد صار معظم العرب» فلسطينيين»: دولهم، بالمعنى السياسى، محتلة الإرادة، قرارها ليس لها، وسلطتها لا تعبر عن مصالح شعبها، بل هى فى الغالب الأعم على تناقض مع شعبها، تخاف منه أكثر مما يخاف منها فتقمعه، وإن انتفض ضدها حرضت بعضه ضد بعضه الآخر، فانفتحت أبواب جهنم الحرب الأهلية.
ما أكثر السلطات وما أقل الدول..

ربما يصح القول أيضا: ما أكثر الدول وما أقل الأوطان.

صارت الدولة آكلة الوطن، والسلطة آكلة الدولة، والشعب قوافل من الرعايا الجهلة والقاصرين الذين يجب أن تتم حمايتهم من أهل الضلال، بتحويل البلاد إلى جنة محرمة على أهلها مفتوحة للأجنبى المضمون الآتى لحماية الكيان أو لتنمية الاقتصاد، ولو بنهبه.

الدولة تخاف من شعبها فتقمعه، تخاف من الشعوب الأخرى فتسد عليها المنفذ، تخاف من الدول المتقدمة، فتواليها، تخاف من إسرائيل فتسير فى ركابها وتحقق لها مطامحها سلما.

والخوف خوفان: خوف يأخذ إلى القمع المطلق فى الداخل، وخوف يأخذ إلى التبعية والاستسلام المطلق للخارج الذى سقطت فيه الحدود بين إسرائيل والغرب فصار واحدا.

ولقد كشف تقرير جولدستون العرب بدولهم جميعا، أكثر مما كشف الوضع الفلسطينى الذى لا يختلف اثنان على الإقرار بترديه، بحيث بات عبئا على القضية المقدسة وذريعة للتنصل العربى من تبعاتها الثقيلة.

إن هذا التقرير فى ما لم يقله يشكل إدانة ضمنية للنظام العربى عموما ولأهله الذين أغمضوا عيونهم عن إسرائيل وهى ترتكب المذبحة ضد شعب فلسطين فى غزة، ولم يعد مهما أن يصوتوا الآن للتقرير الذى صنفهم فى موقع شهود الزور.

لقد كشف هذا التقرير غربة أهل النظام العربى عن العصر، وانعدام قدرتهم على التأثير وتضاؤل وزنهم الدولى.

لم يكشف التقرير أسرارا، بل قرر واقعا: ليس الفلسطينيون واحدا بل إنهم عديدون، مختلفون، بل ومقتتلون، لا يجتمعون حتى على دمائهم.

وقرر التقرير أن العرب ليسوا أصحاب الدم. فالنظام العربى لا يريد استثارة الغضب الإسرائيلى، فهذا الغضب يستدعى العقاب الأمريكى، فى حين أن هذا النظام العربى يطلب الرضا الأمريكى لكى تستقر أوضاعه فى دوله المفتوحة على رياح التغيير.

******

لقد دمر النظام العربى معارضيه فى الداخل، والتفت يهنئ نفسه على إنجازه فإذا هو قد ألغى دولته، وإذا الوطن مفتوح للقادر على أخذه.. والقادر الوحيد هو الأمريكى بذراع إسرائيلية أو الإسرائيلى بوجه أمريكى.

ولعل وقائع الأيام قد كشفت أن أمير قطر كان بعيد النظر، فقرأ المستقبل قبل أن يصل وقفز إليه فاستقر آمنا فيه، تحرسه أكبر قاعدة عسكرية أمريكية فى «العيديد» وعلاقة مفتوحة مع إسرائيل لا حاجة فيها للسفارات ومكاتب التمثيل التجارى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved