غزة كمحطة انتقالية بين عصرين

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الأربعاء 21 نوفمبر 2012 - 8:30 ص بتوقيت القاهرة

ربما لأن الأمر يتصل بالقضية المقدسة فلسطين، بكل تراثها النضالى العريق، فإن الحرب الإسرائيلية الجديدة على غزة تتخذ سياقا مختلفا عما شهدنا من سلوك الإسلام السياسى فى أقطار عربية أخرى، ولا سيما حيث تيسر لتنظيم «الإخوان» أساسا وبالشراكة مع تنظيمات إسلامية أخرى الوصول إلى الحكم أو السيطرة عليه.

 

وليست مبالغة القول أن النتائج التى ستفضى إليها المواجهة بين تنظيمات المقاومة فى غزة، وأكثريتها الساحقة إسلامية التوجه، وبين العدو الإسرائيلى، ستشكل محطة انتقالية بين عصرين: عصر ما قبل الإسلام السياسى حاكما، والعصر الذى يتولى فيه الإسلام موقع القيادة فى كل من مصر منفردا وتونس (بالشراكة مع قوى أخرى وإن ظلت له القيادة) وليبيا (وإن بشكل عشوائى).

 

لقد كان الإسلام السياسى فى موقع «المعارضة» للاتفاقات التى عقدتها أنظمة حاكمة (أولها فى مصر) وبين العدو الإسرائيلى، ولكنه لم يصل يوما إلى حد القطع معها، بدليل مشاركته فى الانتخابات النيابية وفى الحركة السياسية عموما سواء فى مصر أو فى الأردن... من دون أن ننسى أن قيادات الإسلام السياسى قد اتخذت من قطر «مركزا» لحركتها ومحطة انطلاق لأنشطتها متعددة الأهداف، سواء فى المنطقة العربية أو فى العالم الإسلامى، فضلا عن حركة اتصالاتها مع عواصم القرار فى العالم الغربى، من دون أن ننسى أن الدوحة «تستضيف» قيادة التنظيم الدولى لحركة الإخوان المسلمين.

 

وحين وقعت الحرب الإسرائيلية الأولى على غزة فى أواخر سنة 2008 كان الإسلام السياسى ممثلا فى «حماس» قد أنجز ــ بالكاد ــ هيمنته على «الحكم» فى هذا القطاع بانقلاب مباغت نفذه ضد «السلطة الفلسطينية» فى رام الله، فى ظل معارضة رسمية عربية ودولية شاملة، بلغت حدها الأقصى بامتناع مصر عن فتح بوابات العبور الوحيدة.

 

وحدها الأمم المتحدة، ولأسباب مبدئية تتصل بطبيعة الأهداف المعلنة لتبرير وجودها، حظيت بالإذن الإسرائيلى فدخل أمينها العام غزة المهدمة.

 

كان «النصر» الأخطر اعتراف العالم ــ واقعيا، أى دوفاكتو ــ بسلطة «الحكومة المقالة» إسلامية التوجه والشعار فى غزة.. صارت «حماس» شريكا مضاربا «للسلطة الشرعية» التى يرأسها محمود عباس فى رام الله.

 

على أن التطور الأخطر جاء مع الفرصة التى أتاحتها الانتفاضات العربية عبر إسقاطها بعض أنظمة الطغيان، وتقدم الحركات الإسلامية نحو السلطة فى أكثر من بلد عربى.. وكان أخطرها وصول رئيس من الإخوان المسلمين إلى سدة الرئاسة فى مصر، بانتخاب شعبى مباشر، لا يتسع هنا المجال لمناقشة الالتباس فى الظروف التى أدت إليه، مما عزز الحكم الجديد الذى جاءت به ثورة البوعزيزى فى تونس والذى تصدرته حركة النهضة ذات المنحى الإخوانى.

 

انفتحت الأبواب مبدئيا أمام حماس الحاكمة فى غزة، لكى تعوض «شرعيتها المنقوصة» باعترافات عربية، ولو ضمنية، سعت جاهدة لتحويلها إلى نوع من التحالف تحت الشعار الإسلامى. وتوالت زيارات قادة حماس إلى القاهرة، وبينها زيارة «رئيس الحكومة المقالة» إسماعيل هنية التى حارت السلطة المصرية الجديدة فى كيفية التعامل معها، ثم اختارت إضفاء الطابع الشخصى، حين اتصل الأمر بالرئيس، أو الطابع التنظيمى فى اللقاء مع جماعة الإخوان التى لا تستطيع رفض استقبال «الإخوة فى التنظيم» ولكنها تحاذر الالتزام رسميا بما من شأنه «استفزاز» إسرائيل او الإيحاء بسلوك قد يهدد اتفاقات السلام المعقودة مع هذا العدو فى الماضى والممنوعة مخاصمته الآن بما يحرج مشروع السلطة الإخوانية فى مصر.

 

الحرب الإسرائيلية الجديدة على غزة فتحت الباب أمام طور جديد من الصراع العربى ــ الإسرائيلى.

 

بداية: مكنت الشعب الفلسطينى، كل الشعب الفلسطينى، من أن يستعيد زخم مقاومته. فليس سرا أن فترة ما بين الحربين الإسرائيليتين على غزة قد شهدت مسلسلا من التنازلات التى أقدمت عليها السلطة معتذرة بالتخلى العربى الرسمى عنها وبالضغوط الدولية، حتى سيطر اليأس على الشعب الفلسطينى ومعه سائر الشعوب العربية.

 

ثم إن المقاومة الباسلة التى أبداها الشعب الفلسطينى فى غزة أعادت «القضية» إلى الصدارة وعبر مواجهته الحرب الإسرائيلية الجديدة موحدا، متخطيا الانقسامات التنظيمية إذ قاتلت «حماس» و«الجهاد الإسلامى» و«الجبهة الشعبية» وسائر المنظمات، موحدة تحت راية فلسطين.

 

وبالتأكيد فإن هذه الوحدة فى المواجهة قد أعادت الاعتبار إلى المقاومة فى فلسطين، بعدما كادت تختفى تحت ركام الخلافات على السلطة التى صارت ــ بذاتها ــ موضوع الصراع بين رفاق السلاح بما أراح العدو الإسرائيلى وجعله «يتفرغ» لاستعراض قوته بالحديث اليومى المتكرر عن قدراته الهائلة التى تمكنه من ضرب إيران وتصفية المقاومة فى لبنان فضلا عن توجيه الإهانات اليومية المذلة لرئيس السلطة الفلسطينية فى رام الله فى آن  معا. أما حماس وسائر المنظمات المقاتلة فى غزة فقد كانت خطته أن يصفيها عبر عمليات اغتيالات مدروسة، وكان العنوان الأول «الشهيد احمد الجعبرى».

 

كانت تلك نقطة التحول فى مسار المواجهة، إذ أعطت المقاومة فى غزة «مناسبة» شرعية للرد، وبقدر عال من الجهوزية لم يكن يتوقعها العدو الإسرائيلى خصوصا وقد استخدمت فيها أنواعا متطورة من الصواريخ، إن من حيث المدى أو من حيث الفاعلية.. وهكذا انهمرت صواريخ «فجر» على عدد كبير من المستعمرات الصهيونية، القريبة من «حدود» غزة أو البعيدة وصولا إلى النقب، بل وتفجر بعضها غير بعيد عن تل أبيب ولامس بعضها حدود المدينة المقدسة، القدس. وكان واضحا أن القيادة الإسرائيلية لم تكن تتوقع أن تكون مثل تلك الصواريخ بعيدة المدى والمحملة بطاقة تفجير هائلة قد وصلت إلى المقاومة فى غزة، فكان عليها أن تعيد حساباتها.

 

لقد بدلت هذه الصواريخ، الآتية من البعيد البعيد، والتى بذلت جهود جبارة لتمريرها من مصدرها النائى إلى قيادة المقاومة فى غزة، فى قواعد اللعبة، جذريا،  مستولدة معادلة جديدة: تضربون غزة فنضرب تل أبيب.

 

هذا فى الميدان العسكرى، أما فى المجال السياسى فصارت الحسابات أكثر تعقيدا: فلن يستطيع حكم الرئيس الإخوانى فى القاهرة، وحكومة الإخوان ــ ولو بالشراكة مع أطراف أخرى فى تونس ــ وبعض الحكومات النفطية التى قفزت إلى تصدر « الربيع العربي» أن يشيحوا بوجوههم عما يحدث لغزة وفيها نتيجة الهجمات بالطيران والصواريخ الإسرائيلية.

 

وإذا كان ابرز ما قرره وزراء الخارجية العرب، خلال اجتماعهم الطارئ فى الجامعة العربية فى القاهرة، أن يقوم وفد منهم بزيارة غزة، لدعم صمودها فى مواجهة العدوان الإسرائيلى و«حصر أضراره» العدوان الإسرائيلى الجديد، تمهيدا لمحاولة «التعويض» وإعادة بناء ما تهدم ــ فإن هذه الزيارة تفتح الباب لأسئلة عديدة ووجيهة.

 

بين تلك الأسئلة: هل هدف الجولة إقناع مجاهدى غزة بالتهدئة، ومقابل ماذا، أم أن الهدف ــ ولو بالتمنى ــ دعم صمود الشعب الفلسطينى، وتأكيد الوقوف إلى جانبه، سياسيا وماديا... ولا نقول و«عسكريا» للتعذر.

 

هل هدف الجولة التمهيد لصفقة ترضى حماس باستمرار «حكمها» أم ستتجاوز ذلك إلى مساعدة الشعب الفلسطينى فى استعادة وحدته؟

 

بمعنى آخر: هل ستتصدى بعثة الجامعة العربية لمحاولة المصالحة بين «السلطة الفلسطينية» بقيادة محمود عباس والقيادة الميدانية فى غزة، والتى تتولاها «حماس» وإن كانت منظمة «الجهاد الإسلامى» قد باتت طرفا فى المعادلة الجديدة لا يمكن تجاهلها.

 

فى أى حال فإن غزة ــ بجماهيرها ومقاومتها وتحت قيادة حماس المؤتلفة الآن مع مختلف «الفصائل» ــ قد حققت نصرا باهرا، يحتاج إلى حماية قادرة ومؤهلة.

 

ومؤكد أن ما تحقق فى هذه الجولة الجديدة باهر وسيكون له أثره السياسى الواضح فى مواجهة العدوان الإسرائيلى المفتوح على الفلسطينيين، فى غزة التى يحاصرها منذ دهر، كما فى الضفة الغربية التى يتحكم برغيف الخبز فيها كما بمختلف وجوه الحياة.

 

إن فلسطين تدخل طورا جديدا فى نضالها من اجل أن تكون لأهلها.

 

ثم انه امتحان خطير للإسلاميين، حيث يحكمون منفردين أو بالشراكة، من اجل أن يؤكدوا أنهم مؤهلون لأن يعودوا إلى هذا الميدان الذى غادروه منذ أمد بعيد.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved