المؤتمر القومى الأول للسياسة الخارجية المصرية.. الشكل والمضمون

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الخميس 22 يناير 2015 - 8:10 ص بتوقيت القاهرة

أنا سعيد بالاستقبال الطيب الذى حظى به اقتراح الاستعداد لعقد مؤتمر، سيكون الأول من نوعه فى مصر، للسياسة الخارجية المصرية. أثيرت أسئلة كثيرة وتعددت الاجتهادات أكثرها لا يتعلق بجدوى المؤتمر وأهميته بقدر ما تعلق بشكله وتنظيمه وخطوات الاستعداد له ونوعية المشاركة فيه.

•••

أعود فأوجز دوافع ومبررات الدعوة لعقد مؤتمر قومى للسياسة الخارجية المصرية. هناك اتفاق عام، داخل مصر وخارجها، على أن السياق الدولى الذى تمارس فيه سياساتنا وعلاقاتنا الدولية قد تغير وفى طريقه إلى تحولات جوهرية أشد عمقا وشمولا. هناك أيضا اتفاق عام بين المتخصصين فى الشئون الإقليمية بأن السنوات الأخيرة شهدت تغيرات أساسية فى السياق الإقليمى، بينما لم تشهد سياستنا الخارجية التغيرات التى تتناسب وهذا التغيير فى الإقليم.

كذلك صار واضحا أن دولا عظمى ومتوسطة عديدة أقدمت خلال السنوات الأخيرة على تغيير «أنماط» سياساتها الخارجية. جرى بعض التغيير فى هذه السياسات بعد التوصل إلى «قناعات قومية» فى تلك الدول بضرورة إعادة النظر فى المسلمات والثوابت التى قامت عليها سياساتها الخارجية لعقود عديدة، حدث هذا فى أمريكا وحدث فى الصين ويحدث فى روسيا والهند والبرازيل وكوبا وتركيا وأوكرانيا. أؤكد هنا أن فى معظم هذه النماذج امتدت يد التغيير إلى بعض الثوابت القومية.

أذكّر كذلك بثورة نشبت فى مصر ودول عربية أخرى. أخطأ حكام عرب حين تعاملوا مع هذه الثورة على أنها محصلة مؤامرات خارجية أو نتيجة تقصير إدارى وأمنى أو ثمرة مجموعة مصادفات عابرة. اخطأوا حين تصرفوا، وبعضهم لايزال يتصرف، بنية العودة إلى ما كانت عليه الأحوال قبل نشوب هذه الثورات ونية التأكد من تفادى أوجه القصور والفلتان. اخطأوا ويخطئ من استمر يعمل فى ظل هذا الاقتناع.

هناك ثورة غيرت ومازالت تغير. ودليلى القاطع هو هذه التجاذبات والتغيرات فى بعض تفاصيل السياسة الخارجية فى جميع الدول العربية بدون استثناء، تلك التى قامت فيها ثورة، وتلك التى تحاول تأجيلها. يكفى نموذجا على هذه الحالة المتقلبة فى السياسات الخارجية الإقليمية الوضع فى مجلس التعاون الخليجى خلال السنوات الأربع الأخيرة، وبشكل خاص الجهود المكثفة، المتضاربة أحيانا، لإصلاح أعطاب شديدة أصابت الصورة الإقليمية والدولية لهذه المجموعة العربية، وانعكاسات هذه الصورة على صورة النظام الإقليمى وجامعة الدول العربية. وفيما يخصنا فنحن نعرف جيدا فى القاهرة عمق التأثير الذى حدث فى مصر ويحدث فى سياستها الخارجية كنتيجة مباشرة لتطورات الوضع فى مجلس التعاون.

•••

إن استمرار الثورة، أو على الأقل استمرار أجواء التغيير السياسى الإقليمى عامة والداخلى فى مصر خاصة، يتيح فرصة للتفكير المرتب، ولكن العميق، حول ضرورة العودة لاكتشاف قواعد ومبادئ جديدة لسياسة خارجية مصرية تتناسب، وقياس حجم التحولات الواقعة فعلا فى العالم والمنطقة وفى مصر. مهم جدا أن نستعد بالخيال ولكن أيضا بواقعية متزنة لتحولات أشمل وأعمق فى كل نواحى حياتنا. لدينا فرصة لا تعوض، فالإنسان المصرى جاهز لتحمل تكلفة التغيير ومتحمس له ومستعد لدعمه، وبخاصة إذا اقتنع بجدية النوايا وتوفر الإرادة. مرة أخرى أعود لأؤكد أن الفرصة تبدو سانحة لأن أغلب الظروف تضغط وبشدة من أجل التغيير، ولأن لا أحد ينتظر أن يتحقق إصلاح باستخدام أساليب مبارك وفلسفته عن الاستقرار السياسى.

•••

المثال البارز على ضرورات التغيير هو الحديث المتكرر، نظاما بعد نظام وقيادة بعد قيادة، عن دور مصر. صار دور مصر يتخذ طابعا فولكلوريا من فرط استسهال تناوله والتشدق به عن فهم حينا وعن جهل فى معظم الأحيان ومن فرط التعامل به ومعه إعلاميا وسياسيا بطريقة هزلية وديماجوجية.

كنا نعرف فى أعماقنا وفى خطاباتنا وسلوكياتنا أن هناك انحدارا فى مكانتنا الإقليمية والدولية وانحسارا فى مواقعنا الخارجية. بعضنا كان يسأل نفسه، ومن حوله، عن طبيعة ونوع هذا الانحدار. كان الانحدار حقيقة واقعة لا يمكن إنكارها، ولا يجب إنكارها الآن إن شئنا التغيير نحو الأحسن. يجب علينا أن نميز بين انحدار دولة وانحدار نفوذ هذه الدولة. كنت دائما، ومازلت، اعتبر أن النفوذ المصرى انحدر قبل أن تنحدر الدولة المصرية. انحدرت الممارسات والأخلاقيات والوعى بأهمية دور مصر قبل أن تنحدر امكانات الدولة وقدراتها الملموسة وأرصدة سياستها الخارجية.

•••

تعلمت على مر العقود، أكاديميا ودبلوماسيا، أنه لا يوجد نفوذ خارجى قوى ومؤثر لدولة لا تحمل سياستها الخارجية رسالة إلى العالم، أو على الأقل للإقليم الذى تنتمى إليه. كوبا حافظت لعقود عديدة على جودة وأناقة رسالتها إلى شعوب أمريكا اللاتينية وأفريقيا وها هى تجنى ثمارها. إيران منذ أزمنة صاغت رسائل إقليمية عديدة، وها هى تسعى لتطوير رسالة توجهها للعالم، قد لا تحظى برضاء من دول فى الإقليم وخارجه ولكنها تبقى مؤثرة وفاعلة. تركيا، حاولت، منذ أوائل القرن الحالى صياغة رسالة إلى شعوب وحكومات الشرق الأوسط، ولكنها لم تحسن صياغتها أو لعلها أخطأت فى العنوان وفى التوقيت فتعطلت أو على الأقل تأجلت. ولأمريكا رسالة نعرفها ولروسيا رسالة يعاد بعثها. ها هى الهند تنشغل بصياغة رسالة تليق بحضارتها وتراثها ونهضتها الحديثة. أتصور وبأمل متقد أن المؤتمر الذى نقترح عقده سيكون مكلفا بصقل رسالة مصرية كنا نتباهى بها أمام أمم كثيرة، ويحق لنا بعد صقلها تطويرها وبثها فى نفوس المصريين وعقولهم ثم فى الإقليم، ومن الإقليم إلى العالم الخارجى.

•••

أفكار على هذه الدرجة من الطموح والتطلعات المستقبلية، وقائمة على تصورات وسيناريوهات أكاديمية وتجارب فعلية فى دول تزداد عددا، هى أفكار تحتاج إلى مؤتمر بتركيبة خاصة وأهداف مختلفة عن أهداف المؤتمرات التليفزيونية الشائعة. أنا، وكثيرون أيدونى، أطمع فى مؤتمر يشارك فيه مئات، لا أمانع فى أن يكونوا ألفا أو ألفين، ولكنى أرفض بالتأكيد أن يكون على شاكلة مؤتمرات العشرة أشخاص أو العشرين أو حتى الخمسين. هؤلاء العشرة أو الخمسين لن يمثلوا تمثيلا صادقا وحقيقيا مصالح مصر القومية التى يسعى المؤتمر، لأول مرة فى تاريخ مصر، إلى وضع تعريف واضح وواقعى لها. لن يمثلوا المصالح الزراعية والتجارية وقطاع الأعمال والنقابات العمالية والمهنية. لن يمثلوا الجمعيات الخيرية ومنظمات المجتمع المدنى وبخاصة المجموعات الحقوقية والمدافعة عن الحريات والعدالة.

أتصور فى المؤتمر لجانا بالعشرات متخصصة فى تخصصات دقيقة ولكن لها علاقة مباشرة أو غير مباشرة بالسياسة الخارجية. أتصور مشاركة من كافة الأعمار والهويات، ومشاركة من المهاجرين المصريين ومن علمائنا وباحثينا ودارسينا فى الخارج. أتصور لجانا تجمع العقول المصرية الرائعة التى تعمل فى المؤسسات الدولية والشركات عابرة الجنسية. أتصور لجانا تمثل مؤسسات مصر المحلية ومحافظاتها الإقليمية. أنتظر بشكل خاص لأرى، مشاركة فعالة من مواقع سلك القضاء ومن المراكز الأكاديمية والمتخصصة فى القوات المسلحة المصرية، ومن مبعوثيها فى الخارج، ومن قطاعات التحليل الاستخباراتى. أتوقع بالتأكيد بل وأتطلع إلى مشاركة قوية من ممثلى أجهزة الأمن الداخلى.

•••

لن يكون من مهام هذا المؤتمر اقتراح سياسات معينة أو تقييم سياسات قائمة أو ماضية. لن نريد بحثا فى علاقتنا بإيران أو بالسعودية أو بأمريكا، فلدينا من هذه البحوث العشرات. لن تكون السياسات من اختصاص مؤتمر مهمته الأساسية إعادة النظر فى «الثوابت والمسلمات والمبادئ والقواعد».لا نريد أن نناقش فى أمر الماضى ونحكم عليه. لكننا نريد وبالتأكيد مناقشة أمر المستقبل عندنا وعند غيرنا. وفى الوقت نفسه نناقش ونقرر فى أمر أحوال مصر وحقيقة امكاناتها وقواها الصلبة والناعمة على حد سواء. فليحاول المؤتمر حصر وتقييم القوى الناعمة المصرية التى يمكن الاعتماد عليها لسنوات قادمة، وليحاول فى الوقت نفسه تطوير قوى ناعمة جديدة.

نسعى لعقد مؤتمر يناقش بكل الصراحة والشجاعة مسألة «الدور». فلنسأل أنفسنا إن كان الإقليم العربى، أو الشرق أوسطى، فى حاجة إلى مصر بعد عشرين أو ثلاثين عاما؟ وكيف نجعله فى حاجة إلى مصر إن بدا لنا أنه لن يكون فى حاجة إليها؟ وهل يمكن لمصر أن تعيش فى سعادة وبحبوحة إذا لم يكن لها دور؟ هل حقيقة أن الدور الخارجى قدر محتوم؟ أم أنه دور يرسمه أصحابه والمستفيدون من وجوده ويتعهدون، إن أفلح، بتنميته وحمايته؟

•••

سهل جدا أن أدعو إلى عقد مؤتمر يضم خيرة أعضاء نخبة السياسة الخارجية المصرية، عشرة أو عشرين من الأكاديميين والدبلوماسيين القدامى وخبراء الاستراتيجية العسكرية الاستخباراتية، ليضعوا ورقة أو أوراقا فى السياسة الخارجية، أؤكد وأعلم عن خبرة وثقة، أن كثيرا من هذه الأوراق ستكون ذات فائدة فى تحليل وتطوير بعض السياسات الخارجية «القائمة» وبمعنى أدق الساكنة، مثل علاقتنا بإيران وأفريقيا والاتحاد الأوروبى والصين. ستكون قيمتها التحليلية، وفى الغالب الوصفية، كبيرة ولكن تبقى فى حيز القائم. تبقى قاصرة عن إصدار الحكم الأشمل، فى مدى ملاءمة «عمارة» السياسة الخارجية المصرية للبيئة العالمية والإقليمية بعد عشرة أو عشرين عاما، خاصة ونحن نعلم علم اليقين أن دولا عديدة تعيد الآن تقييم ثوابتها ومسلماتها بل وايديولوجياتها، وتعيد تعريف مصالحها القومية وأدوارها ومسئولياتها الخارجية، استعدادا لنظام دولى جديد ومنظومة تفاعلات دولية مختلفة عن كل ما عرفناه وعهدناه.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved