قانون الطفو

عبد العظيم حماد
عبد العظيم حماد

آخر تحديث: الخميس 22 فبراير 2018 - 10:45 م بتوقيت القاهرة

من تداعيات الخطة التى نفذت بإحكام وشراسة لتفريغ انتخابات الرئاسة من كل احتمال لمنافسة مفتوحة أو شبه مفتوحة، أن أحزابا شرعية، وشخصيات عامة، ومعلقين يتداولون – بقوة ــ فكرة تجميد النشاط الحزبى، أو النشاط العام بمعناه السياسى المباشر، أى بمعنى المشاركة فى لعبة الصراع الديمقراطى السلمى للوصول إلى السلطة، أو المشاركة فيها، أو التأثير الواضح عليها.

والحق أن فكرة التجميد كانت قد طرحت لأول مرة فى أروقة بعض الأحزاب كتصعيد احتجاجى على القسوة التى جوبهت بها مظاهر الاحتجاج على اتفاقية تسليم جزيرتى تيران، وصنافير للمملكة العربية السعودية، ولكن – وكما يبدو لى من معاينة مباشرة – أن السبب الرئيسى فى استبعاد الفكرة فى ذلك الوقت كان الأمل فى عودة الروح للحياة السياسية، بحلول موعد الاستحقاق الانتخابى لرئاسة الجمهورية، بالإضافة إلى تغلب الرأى القائل بأن الاستمرار يعتبر فى حد ذاته مقاومة للسياسات الحكومية الهادفة إلى إغلاق المجال العام تماما ونهائيا.

بناء على هذه الملاحظة يصبح مفهوما أن تعود فكرة تجميد النشاط السياسى حزبيا كان أم غير حزبى لتطرح نفسها بقوة، ما دامت الفرصة التى كانت منتظرة لإعادة الروح قد أزهقت هذه الروح نهائيا أو كادت.

أمام هذا المشهد أجد نفسى ميالا إلى النتيجة التى خلص إليها الدكتور زياد بهاء الدين فى مقاله الأخير «بالشروق»، وإلى التشخيص الذى قدمه الصديق عماد الدين حسين فى «الشروق» أيضا، إذ يرى «عماد» أن ما يجب أن يفهمه الجميع هو أن قواعد اللعبة السياسية قد تغيرت بإرادة حكومية سافرة، ويضيف الدكتور «زياد» أن مقايضة الأمن بالحريات والحقوق والمشاركة السياسية هو برنامج الفترة الرئاسية الثانية، ولكنه يرتب على ذلك نتيجة هى أبعد ما تكون عن فكرة تجميد النشاط العام للقوى أو التيارات أو الشخصيات المعنية بالتحول الديمقراطى، ويقترح التركيز على ما يهم المصريين مباشرة فى حياتهم اليومية، واعدا إيانا بأفكار ومقالات، وأنشطة فى هذا الاتجاه.

لا جدال فى أن قواعد اللعبة تغيرت، ولا جدال أيضا فى أن فكرة التجميد أو الاعتزال هى أسوأ الأفكار فى هذه اللحظة من تاريخ مصر، لأنها ليست فقط استجابة انفعالية، واستسلاما نهائيا للسلطوية، ولكنها أيضا عقاب للنفس، وتبديد لمكتسبات وخبرات تنظيمية وفكرية، يعود بالحياة السياسية المصرية إلى ما قبل إقرار شرعية التعددية، مع الاعتراف بكل القيود والعقبات على هذه التعددية، ومع الاعتراف بوقوع مظالم كثيرة فى حق حزبين سلميين.

سبب آخر يدعونا إلى رفض تجميد النشاط الحزبى بمعناه المحدد، والنشاط السياسى بمعناه العام هو الخذلان المتوقع من هذه الخطوة للأجيال الشابة، وهى الأغلبية بين المهتمين بمستقبل مصر حاليا، إذ إن هذه الأجيال ليست مقتنعة – لأسباب كثيرة – بالممارسات السياسية الحالية، ولا بجدوى إحياء نظام يوليو 1952، ولاباستثنائية الظروف المصرية حاضرا ومستقبلا كمبرر أبدى لوأد التحول الديمقراطى، وليست هذه العقيدة وليدة ثورة يناير 2011 بقدر ما كانت سببا لها، ولذا فإن خذلان هذه الأجيال سوف يكون جريمة وطنية وأخلاقية.

فى هذه النقطة بالذات، وإعمالا لمنهج التفكير بالتمنى – الذى لا أحبه كثيرا – فإننى أفترض أن إبقاء باب المشاركة السياسية مفتوحا أمام الأجيال الشابة هو نقطة التقاء للمصالح بين النظام الحاكم، وبين قوى المعارضة الديمقراطية، أو هذا ما يجب أن يكون، لأن إغلاق الأبواب، ومواصلة تفريغ المجتمع من التنظيمات السياسية سوف يؤديان على المدى المتوسط – ولا أقول البعيد ــ إلى تجذر وانتشار التنظيمات السياسية الدينية، إن لم يكن بين أعداد كبيرة من «الشباب» فسيكون بين أعداد لا يستهان بها منهم، دون أن يجد هؤلاء الأخيرون حائط صد مدنى ديمقراطى فى مواجهتهم، من القاعدة إلى القمة.

ومع اعترافنا آنفا بالقيود والعقبات والمظالم المفروضة على الأحزاب، وغيرها من تيارات وشخصيات الحياة السياسية، فإنه سيكون من قبيل المكابرة أو خداع النفس أن ننكر وجود أسباب ذاتية للضعف والقصور فى الحركة الحزبية عموما، وفى كل حزب على حدة، وأن نعترف بالحاجة الملحة لمعالجة هذه الأسباب.

إن أكبر آفات الحركة الحزبية المصرية هو أن تعجل قطف الثمار، والثمار هنا ليست شيئا غير السلطة، أو القوة الانتخابية غير المؤسسة على قواعد شعبية متينة، وقد وقع فى هذا المحذور سريعا كل من حزب الوفد الجديد فى بداية تأسيسه، وحزب العمل فى ثمانينيات القرن الماضى.

كشاهد عيان، ومراقب مهتم، ما زلت أذكر الحماس والتفاؤل الكبيرين اللذين قوبل بهما إعادة تأسيس الوفد فى حفل فناء المدرسة السعيدية الشهير، وما زلت أذكر إقبال أساطين الفكر والرأى والسياسة لحضور هذا الحفل، والحفل الذى تلاه فى منزل المرحوم فؤاد سراج الدين مؤسس الحزب، أملا فى انبعاث حزب ليبرالى حقيقى، له تراث عريق فى الالتزام بمبادئ المواطنة والوطنية والعدالة الاجتماعية، ولكن ما هى إلا أشهر حتى فوجئ الجميع بإعلان تحالف انتخابى بين الوفد الجديد، وبين جماعة الاخوان المسلمين، التى لم تكن فى ذلك الوقت قد التزمت بمبادئ المواطنة الكاملة على نحو ما أعلنت عام 2012، وكان هذا التحالف الذى ليس له أساس سوى الأمل فى مكاسب انتخابية عاجلة، سببا كافيا ومبررا لانصراف الكثيرين ممن ذكرتهم عن الحزب، بل وليأس بعضهم من إمكان التحول الديمقراطى قريبا، ومن هؤلاء الأستاذ نجيب محفوظ، والدكتور لويس عوض على سبيل المثال لا الحصر، بل يمكن القول إن هذه الحسبة المتعجلة من سراج الدين أصابت الليبرالية المصرية كلها بطعنة لم تفق من آثارها حتى يومنا هذا.. لأنه كان الأجدر بقيادة الليبراليين من كل خلفائه، بحكم ثقله التاريخى، وخبراته غير المتنازع عليها.

ورغم هذه النكسة التى ألمت بحزب الوفد الجديد من جراء التحالف الانتخابى المتسرع مع جماعة الاخوان المسلمين، فإن حزب العمل الذى أسسه المرحوم المهندس إبراهيم شكرى، وقع فى المحذور نفسه بعد سنوات، مما أدى إلى انسحاب الجناح الاشتراكى التقليدى منه، وإلى سيطرة الشعبوية الاسلاموية عليه، وصولا إلى حظره نهائيا، بعد سلسلة من الصدامات – بحق أو بغير حق – مع النظام الحاكم.

لقد أوردت هذين المثلين لكى أثبت بالدليل العملى الأضرار المؤكدة من تعجل الوصول إلى السلطة، أو المشاركة فيها، دون بناء قواعد حزبية وانتخابية تنمو وتتسع تدريجيا بالاتساق مع المنطلقات الفكرية، والمبادئ السياسية لكل حزب أو تنظيم، عبر فترة معقولة من الزمن، وهذا ما سماه الدكتور زياد بهاء الدين فى مقاله المشار إليه بسياسة النفس الطويل.

لكن تعجل الوصول إلى السلطة، أو الحصول على ثقل انتخابى ليس العرض الوحيد من أعراض قصور الحركة الحزبية، فهناك وجه آخر للضعف يتسم بدوره بسمة التعجل، وهو الانزلاق بسرعة من وضعية الحزب إلى وضعية الحركة الاحتجاجية، ومع اعترافنا بوجود تداخل أحيانا بين هذين النوعين من العمل السياسى السلمى، إلا أن الحزب يبقى حزبا، والحركة الاحتجاجية تبقى كذلك، فليس معقولا أن يكون الحزب المعارض مطالبا بإصدار بيان، أو المشاركة فى مظاهرة فى كل صغيرة أو كبيرة لمجرد تسجيل الموقف، وإبراء الذمة، أو عدم التخلف عن ركب المحتجين، أو لتفادى انشقاق هذا العضو أو ذاك، أو هذه المجموعة أو تلك، بما يحول الأحزاب فى نهاية المطاف إلى منظمات كاريكاتيرية، لا تفعل شيئا سوى إصدار البيانات، أو توجيه الرسائل المفتوحة لمن يهمه الأمر، وهنا يجب أن يدرك شباب الأحزاب (على وجه الخصوص) ذلك الفارق المهم بين مفهوم الحزب، ومفهوم الحركة الاحتجاجية، بما أن الشباب هم الأكثر ميلا للضغط الاحتجاجى، بطبيعة المرحلة العمرية التى يمرون بها.

إن الموارد والطاقات السياسية التى تنفق فى الحسابات الانتخابية المتعجلة، أو فى الخلط بين البناء الحزبى المستمر تنظيميا وبرامجيا وبين الاحتجاج المؤقت بطبيعته، كانت ولا تزال تكفى وزيادة لتطور أحزاب ذات مصداقية، وقابلة للنمو.. وقادرة على توفير البديل أو الرديف السياسى فى الوقت المناسب، وإذا كانت اللحظة الحالية ليست هى الأنسب لبدء هذه العملية الشاملة للمراجعة وإعادة البناء، فلتكن هى لحظة الاحتفاظ بالطفو فوق سطح الماء، لا لحظة الغرق بالتجميد، شرط أن لا يكون طفوا عشوائيا حسب اتجاه الموج والريح، ولكنه الطفو المهتدى ببوصلة تحدد الوجهة مهما يطول الوقت، وتتوالى العواصف.

ملاحظة ختامية: من المفهوم أن الحديث مقصور على الأحزاب الجادة، ولا يشمل أحزاب المصالح الشخصية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved