انحِنَاء

بسمة عبد العزيز
بسمة عبد العزيز

آخر تحديث: الجمعة 22 فبراير 2019 - 11:35 م بتوقيت القاهرة

يُولَد البشر على قدر مِن الضعف وقلِّة الحيلة؛ ليس في إمكان الرضيعِ مثلًا أن يصلبَ عودَه، ويستقر واقفًا على قدميه فور خروجه إلى الحياة، كما تفعل أغلبُ صغار الحيوانات. تمُر الأسابيع والشهور فيكبر ويحاول الوقوف، يسقط مرةً ويحبو على أربع مرات، ثم يعاود الخطوَ، إلى أن يتحقَّق له النجاح؛ فإذا مضت به الأيامُ على أتمِّ ما يكون، لم يحتَج مِن جديد للانحناء، ولم تضطره الظروفُ إلى الركوع.
***
حَنَا الشيءَ في قواميس اللغةِ العربية؛ أي عَطَفه، وانْحَنى العُودُ أو الجذع بمعنى انعطف، والانحِناء هو الفعلُ اللازم، وقد يُوصَف به الشخصُ فيُقال: فلانٌ في ظهره انحِنَاء، أما الحِنْوُ؛ فيشير إلى كل ما شَابَهُ اعْوِجاجٌ، والناقةُ الحَنْواءُ هي الحدْباءُ.
***
ينحني المَرءُ منا ليعقِد رباطَ حذائه، أو ليتناول ما سقط منه أرضًا، أو عند مُمارسته الرياضةِ إن كانت في روحه طاقةٌ؛ تلك أفعالٌ ماديةٌ مَلمُوسة، أما على الجانب المُقابل؛ فثمَّة انحناءٌ مَعنويّ، قد يلجأ إليه المَرءُ في مُواجهة العتيّ من النوائبِ، ويكون إيثارًا للسلامة. بعضُ الناسِ ينحني ألمًا، والمَجاز في انحنائه هذا؛ يشي بعمقِ الوجع، لا بثَني العضلاتِ أو اجتنابِ الخطر.
***
أذكُر انحناءةً خفيفةِ كنا نؤديها منذ سنوات طالت؛ كطقسٍ تقليديّ لإحدى الألعابِ القتالية، أسيوية المَنشأ بطبيعة الحال. صدر أمر صارمٌ لم نبحث وراءه ولا اهتممنا له، بالكَفِّ عن الانحناءِ أمامَ المُدرِّب والمُنافِس على حدٍّ سواء. قال المسئُولون حينها أن الانحناءَ لا يكون إلا لله وحده. استجاب بعضُنا وظَلَّ البعضُ الآخرَ ينحني كما اعتاد، ثم تلاشَت الفورةُ بمرور الوَقت، واحتفظت اللُعبةُ بتقليدها العريق؛ انحناءةُ احترامٍ، يؤديها طرفان نِدان، لا فَضل ولا سُلطة لأحدهما على الآخر.
***
ثمَّة انحناءاتٌ رسميِّة لها قواعد تُنظِّمها؛ حركةُ القدمين واليدَين وإيماءة الرأس، وثمَّة انحناءاتٌ شَعبيَّة؛ لا تلزمها مِثل هذه الدقَّة في الأداء، حركةٌ تلقائيةٌ تصدر كيفما يتأتَّى؛ على سبيل المثال، يسارع بعض الناس بالانحناءِ في لَهفةٍ؛ لمَن يجِلُّ مِن رجالِ الدين، وقد يبحث عن ظهرِ اليدِّ ليطبع عليه قُبلة، أو يهمُّ بها؛ مُعلِنًا عميقَ التقدير. على الأغلب لا يجد أحدُ هؤلاء غضاضةً في مَسلَكه، فالانحناءُ الطَوعِيّ لا يُكَلِّف صاحبُه مَشقَّاتٍ كبيرة.
***
في سياقات مُغايرة؛ تعوزُها الرغبةُ الصادقة، وتسودها أشكالٌ مُتباينةٌ مِن الإذعان؛ ينحني الأقلُ شأنًا في حضرةِ الأعلى، كما ينحني العبد للسيِّد؛ لا ينظر في عينيه، ولا يرفع الرأسَ في وجوده. على كُلِّ حال؛ للانحناء بما يحمل مِن رمزيَّة، مَوضِعٌ غير مُستَحَبّ في النُفُوس، ولو جيء له بالمُبرِّرات. يحمل انكسارًا ربما، خُضوعًا ربما، بل وشيئًا مِن الذُلّ أيضًا. كَتَب سميح القاسم: ”مُنتصِب القامةِ أمشي، مُرتفِع الهامةِ أمشي؛ في يدي قصفةِ زيتونٍ، وعلى كَتفي نعشي“، حفظنا الكلماتِ التي لحَّنها وغنَّاها مارسيل خليفة ونحن بعد صغار، ورددناها في وقتٍ كانت مَعاني الكبرياء والمُقاومة بمختلَف تجلِّياتها لا تزال في القلوبِ حية. لم يخبر القاسمُ عن المَشي بثقةٍ أو الخطوِ في ثبات، بل أبرز انتصابَ الجسدِ وارتفاعَ الرأسِ؛ إيحاءً بكرامةِ المَاشي، ونفيًا لمَهانةِ الانحِناء.
***
في عديد المَواقع الإلكترونية التي تهتَم بجمعِ الأقوالِ المَأثورةِ والأمثال، يَرِد المَثلُ: ”طاطي للريح عشان تعدي“. القولُ بصياغاتِه المُتنوعة ذائع الصَيت، ويبدو أنه واسع الانتشار في العالم العربيّ؛ الريح العاتيةُ لا يجب الوقوفُ أمامَها، والواقع العَصيبُ ليس على الناسِ أن يُجابِهوه، الانحناءُ أكثرَ أمنًا وسلامًا ومُسالمَة؛ إذ يُجنِّب المرءَ العواقبَ السيئة، ويقيه شرَّ المُسائلة. الحقُّ أن فكرةَ الانحناءِ حتى مُرور العاصفةِ لها وجاهتُها، لكنها كثيرًا ما تُسفِر عن وضعٍ تَعِس؛ فالانحناءُ مَرةً تعقُبه انحناءاتٌ أخرى؛ قد تنثني فيها الظُهور، وتتيبَّس الأعناقُ، ولا تتمكَّن مِن استعادة وضعِها الأصليّ. تبقى مَحنيَّة كسيرة ما دامت بها الحياة.
***
غَنَّى سيد درويش: ”عشان ما نعلى ونعلى لازم نطاطي نطاطي“، ضِمن أوبريت ”العشرة الطيبة“ التي كتبها محمد تيمور، وقد سُمِّيَ اللحنُ الذي صاغ كلماتِه بديع خيري بلحنِ ”الوصوليين“، وفيه تتحدَّث جماعةٌ مُقرَّبة مِن بلاط الحُكم عن نفسِها، وتُصرِّح بأن وسيلتَها في الحصول على المَكاسِب والمَناصِب هي؛ التزلُّف إلى الحاكِم، وتقديمِ فُروضِ الطاعةِ المُطلَقة، مَهما عَكست مِن مَذلَّة، وأثقلَت الكَواهلَ، ومَهما انحنَت بها الرؤوس؛ فالتمادي في النفاقِ يُضاعِف الحظوظَ، ويقوي الشوكةَ: "أفيونته تمللي قال إيه.. نترصص دايما حواليه.. نروح واقفين زنهار.. زي القط والفار.. نلقاه دايما منفوخ.. نفشر له طاخ طيخ طوخ"، لا بأس إذًا مِن انحناءٍ تعقبه مِننٌ وعطايا.
***
حَمَلت الكلماتُ في حينها سخريةً شديدةً مِن واقع مُر؛ لكنها لم تنفيه، ولم تُجِب عن السؤال العنيد إجابةً قاطعةً، رغم استعراضِ المَساوِئ. تُرى هل يَعقُب الانحناءَ حقًا صعودٌ؟ وهل مِن ضَوابطٍ وشُروط؛ تَحكُم العلاقاتِ الكائنةِ بين الوالي وبِطانته؟ وهل مِن مَقاييس تُفصِّل حجمَ المديح المَطلوب، وتَصِف مقاديرَ الانحناءات الواجبة؟
***
حين تُنَكَّس راياتُ الدول، يكون انحناؤُها على الساري علامةَ سوء، وحين تُنَكَّس الرؤوسُ؛ فعلامةٌ إما على حزن وحِداد، أو خَجلٍ شديدٍ واستحياء. مِن رحِم الحِراك الشعبيّ الأصيل، وُلِدَ الهتافُ الشهير "ارفع راسك فوق أنت مصري"، تردَّد في الساحاتِ، وصار أيقونةً ترتعد لها الأجسادُ وتقشَعِر، ثم إذا بالأعوامِ تمرُّ، وبالرؤوسِ تعود إلى مَكانِها المُعتاد.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved