ما بعد سقوط الجمهوريات الأمنية وما قبل انتصار الثورات

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الأربعاء 22 يونيو 2011 - 8:24 ص بتوقيت القاهرة

 من تونس إلى اليمن تتهاوى هياكل بعض «الجمهوريات» العربية التى غالبا ما قامت فى أعقاب ثورات شعبية، أخطرها حالة مصر، أسقطت أنظمة طغيان ملكية كانت تحبس شعوبها فى ظلام جاهلية القرون الوسطى، فتمنع عنها الشمس والهواء وأسباب التقدم.

اليوم يتكرر المشهد، وإن بملامح عصرية، فتندفع الشعوب إلى الشوارع وتتلاقى جماهيرها فى الميدان، تواجه الدبابات ورصاص «البلطجية» أو «الشبيحة»، مطالبة بإسقاط النظام الذى يأخذ من «الجمهورية» شكلياتها بينما مضمونه كما ممارساته تتجاوز الملكية إلى دكتاتورية الفرد أو القبيلة أو الطائفة أو كل ذلك معا مصفحا بالحماية الأجنبية، أو باللعب على التناقض فى المصالح الدولية.

يصبح مشروعا والحال هذه ان يطرح العرب على أنفسهم سؤالا طريفا: هل عرفنا، حقا، النظام الجمهورى؟!

يستولد السؤال ــ المفتاح أسئلة تفصيلية ولكن لها الأهمية ذاتها:

هل مارسنا الديمقراطية بأىٍ من أشكالها، سواء فى الأنظمة الملكية أم الجمهورية؟!

هل عرفنا حقا الانتخابات التى يختار فيها الناس نوابهم وممثليهم فى البرلمان أو حتى فى البلديات؟

هل اكتفى أى رئيس جاءت به المقادير او فاز عبر اقتراع شعبى بولاية واحدة او باثنتين، حتى لو مدد الولاية من أربع إلى سبع سنوات؟!

إن نماذج الرؤساء الذين أسقطتهم الثورات او هى تتهددهم بالسقوط تدل ان معظمهم قد حكم بشخصه او بالوراثة لمدة قد تنقص قليلا عن نصف قرن ولكنها تتجاوز بالتأكيد ربع القرن!

بل إن بعض هؤلاء قد حكم لمدة تزيد على عهد أىٍ من الملوك الذين تصادف أن كانوا فى زمانه، وبعضهم قد «استهلك» أكثر من ملكين أو ربما ثلاثة وهو يجدد لنفسه ولايته التى لم تكن تنتهى إلا بالموت أو بالخلع.

الفارق الأساسى هو أن الملوك يحكمون باسم الحق الإلهى معززا بالسيف والدينار، فى حين أن رؤساء الجمهوريات الذين يصلون إلى العرش بالانقلاب العسكرى غالبا، يحكمون ثم يمددون ولاياتهم بقوة «الإرادة الشعبية» وعبر استفتاءات تعلن نتائجها قبل إجرائها لأن السيف وحده صاحب... الأصوات!

بل إن المعادلة الجمهورية تتجاوز المعادلة الملكية، كما دلت تجارب تونس ومصر وكما ستدل تجارب أنظمة أخرى، فالسيف للرعايا أما الدينار فهو حق حصرى للسلطان، وليس من حق أحد أن يحاسبه وذريته الصالحة وأعوانه المخلصين... وما هم ان يعيش الشعب فقيرا، انه فقير منذ دهور، وهو قد تعوّد ان يستعين على فقره بالصبر وبالدعاء، توكيدا لعميق إيمانه.

الأخطر أن الأنظمة الجمهورية القائمة على قاعدة « الرئيس مدى الحياة» ونجل الرئيس هو الرئيس المقبل بالاستفتاء المنظم تعبيرا عن الديمقراطية الشعبية، قد فرضت على مجتمعاتها التخلف إلى ما قبل الأنظمة الملكية او الإمامية.

كثير من المجتمعات العربية أعيدت ــ بالسيف ــ إلى البداوة الجاهلية. لقد فسخت الدكتاتورية وحدة المجتمع وأعادته إلى مكوناته الأصلية. مزقت الروابط المدينية، وأعادت الاعتبار إلى الطائفية والمذهبية والنسب القبلى، وريفت المدن بحيث تقاسمت أحياءها الجماعات المستقدمة من الأرياف لتسند صاحب السلطان فى مواجهة البرجوازيين والذين يعملون لإفساد المجتمع وتشويه تقاليده العريقة بتقليد اشوه للغرب حيث الانهيار الخلقى والخروج على القيم!

تختصر الجمهورية بشخص الرئيس. ولأن حماية الرئيس هى قاعدة الحكم يصير الأمن هو الأساس. يشحب دور الجيش الذى مع انتفاء القضية أو مع طمسها، يتحول إلى قوة إسناد للأمن، فى حال الضرورة... وهكذا يصير طبيعيا ان ترتفع أعداد المنتسبين إلى الأجهزة الأمنية، بما فى ذلك المباحث وأمن الدولة، وان تزيد قدراته عن أعداد القوات المسلحة( الجيش) وعن قدراتها... طالما اسقط العدو ــ الوطنى والقومى ــ من الحساب، استنادا إلى تفاهمات دولية أو معاهدات صلح غير متكافئة تفرض سلاما بالأمر، وضمانة الدول. فلماذا الجيوش الجرارة بالدبابات والطيران والبحرية وأسلحة البر التى طالما كانت مصدر خطر على النظام بشهادة القائم بالأمر التى استخدمها للوصول، ويفرض عليه الحد الأدنى من بعد النظر ان يلغيها حتى لا يستخدمها غيره ضده!

خلاصة الأمر: إن العرب لم يعرفوا بعد، النظام الجمهورى.

لقد عرفوا رؤساء يتجاوزون بصلاحياتهم وبمدة تربعهم فوق سدة الحكم الملوك والسلاطين..

لكنهم لم يعرفوا كل ما هو بديهى فى النظام الجمهورى كما يطبقه الكفرة فى سائر أنحاء الدنيا!

الجمهوريات العربية هى أنظمة ملكية مشوهة! فكيف بالجماهيرية التى ابتدعها «الأخ العقيد» فى ليبيا لتكون استثناء فريدا فى بابه لا مثيل لها ولا شبيه فى أربع رياح الأرض؟!

بداية، اصطنع الرؤساء الذين وصلوا إلى سدة الحكم، أحزابا أو هم استخدموا التراث المحفوظ لأحزاب كان لها دور تأسيسى ذات يوم، فأبقوا لافتاتها على أبوابهم ومشوا إلى الملكية مطمئنين إلى متانة القناع وتاريخيته. ولأنهم يحكمون باسم أحزاب تموه مصادر سيطرتهم، عسكرية او قبلية أو طائفية او مذهبية، فمن الطبيعى ان يصادروا العمل الشعبى باسم حزبهم، فإن كان لا بد من وجود أحزاب أخرى فعليها أن تنضوى تحت عباءة الحزب القائد، وإلا فالسجن يتسع لها جميعا.

ولأن الرئيس هو الوطن يصبح منطقيا ان يكون الوطن، بأرضه وبحره، مُلكا للسيد الرئيس الخالد والأبدى. حزبه هو الحزب الحاكم، وكلمته الدستور، والقانون رهن بحركة او إيماءة من رأسه بالرفض او القبول.

.. ولأن النظام جمهورى فلا بد من برلمان. والديمقراطية واسعة المدى، لذلك يحتشد فى أفيائها الأزلام والمخبرون والمرتزقة، وإن ظل قيادها فى ايدى نخبة مدربة، تعرف كيف يخدم التشريع السلطان.

أما الحكومة فأمرها هين: لرئاستها واحد من الأتباع المخلصين الذى يفهم بالإشارة، أما الوزراء فخليط من الانتهازيين والامعات وأصحاب أسماء لامعة لكنهم بلا هوية. هى أشبه بالديوان الخاص للسيد الرئيس. تستمع منه إلى رغباته ورؤاه الإصلاحية الباهرة فتنفذها بلا نقاش. فإن تصادف أن وقع خطأ فدخل جنة الوزارة صاحب رأى او صاحب فكر مختلف فسرعان ما تشن عليه الصحافة المملوكة للسلطان حملة تشهير قاسية تجعله يختفى من الحياة العامة، هذا اذا ما ترأف به السلطان فلم يحاكمه بتهمة هدر المال العام.

الحكم للحاكم. اما أداة الحكم فهى «الأجهزة» التى تتعدد وتتوزع المهمات: بعضها للتنصت، وبعضها لشراء المعارضات او تدجينها بوسائل إقناع مبتكرة، وبعضها للهجوم المسبق على العناصر التى من المحتمل أن تكون خطرة على النظام. والقاعدة الثابتة: أن يراقب كل جهاز الجهاز الآخر، وأن يفيد الرئيس ــ السلطان من وشايات قادة الأجهزة على بعضهم البعض.

هكذا يتحول كل «مواطن» إلى «مخبر» على أهله، حزبه، الجمعية الثقافية التى هو فيها، الإدارة التى يعمل فيها... يصير الشعب جمهورا من المخبرين يتبادلون الوشايات فتفسد الحياة العائلية والصداقة والزمالة... ويطمئن «السيد الرئيس» إلى إخلاص شعبه الوفى، فينام ملء جفنيه!

ليست إقامة النظام الجديد مهمة سهلة: فلا أسس النظام القديم تصلح. وليست الدولة المخربة من داخلها قادرة على النهوض بعبء تجديد ذاتها، ولا التشريعات والقوانين التى شرعنت الفساد وحمت الانتهاكات وبررت الفساد تصلح قاعدة لبناء العهد الجديد.

ثم انه من المستحيل ان تبدأ من الصفر، فثمة إدارة يجب ان تعمل، وثمة مصالح للوطن وشعبه يجب ان تصان، وثمة الملايين بحاجة إلى الخبز والخدمات العامة يجب أن تلبى، ولا مجال لفترة سماح.

هذا قبل ان نتطرق إلى «الدول» ومصالحها التى قد ترى فى النظام الجديد تهديدا لها.

وها نحن أمام مشهد فريد من نوعه: الممالك تحاول شراء الجمهوريات عن طريق استغلال حاجتها إلى «العملة الصعبة»، او إلى توفير فرص عمل لأبنائها الكثر الذين يستحيل عليها ان توفر لهم مجالات كافية لاستيعاب أعدادهم الهائلة، بينما هى تحاول ترميم الإدارة المنهارة، ومنع التخريب فى المنشآت العامة واستعادة الأموال العامة المهربة او المخفية فى انتظار فرصة لتهريبها.

لقد انهالت الوعود على الجمهوريـــــــــــات المستولـــــــدة حديثا بعشرات المليارات من الدولارات. لكن الوعود هى الوجه الظاهر أما الوجه المعتم فهو شروط منح هذه المليارات، وهى أوضح من ان تحتاج إلى شرح: أعطونا فى الموقف السياسى فنعطيكم فى الاقتصاد!

والترجمة البسيطة: أعطونا الثورة نساعدكم فى بناء الدولة الجديدة.

وفى علاقات الدول: لا تبرعات ولا هبات ولا صدقات.

إنه موسم شراء الثورات التى أسقطت الجمهوريات الملكية، والتى تباشر طريقها الصعب والملىء بالألغام لبناء جمهوريات الشعوب.

والمهمة نبيلة، وتستحق كل تضحية تبذل من اجلها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved