لماذا ثورة يوليو؟

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الأربعاء 22 يوليه 2015 - 7:05 ص بتوقيت القاهرة

لم تولد ثورة يوليو من فراغ ولا كانت زعامة «جمال عبدالناصر» محض مصادفة.

لا أحد يخترع الثورات، فكل ثورة بنت تحديات زمانها.

عقب الحرب العالمية الثانية تصاعدت نداءات التحرر الوطنى فى جنبات العالم الثالث وكانت مصر ترزح تحت الاحتلال البريطانى وسيطرته على قرارها السياسى رغم انسحابه إلى مدن القناة وفق معاهدة (١٩٣٦).

باسم الشعب ألغى «مصطفى النحاس» زعيم الوفد فى (١٩٥١) المعاهدة التى وقعها بنفسه وبدت مصر أمام منعطف جديد يؤذن بغروب صفحة كاملة من التاريخ المصرى.

تصاعدت نداءات «الكفاح المسلح» فى مدن القناة وتدفقت إليها مجموعات من الفدائيين يطلبون التحرير بقوة السلاح بعد أن سدت أبواب التفاوض.

وتلخص روايات وأعمال سينمائية الجو العام فى مصر بتلك الأيام لعل أبرزها «لا وقت للحب» للأديب الكبير «يوسف إدريس».

بحسب شهادات متواترة أهمها ما وثقه «كمال الدين رفعت» فإن دور الضباط الأحرار كان جوهريا فى هذا التطور تخطيطا وتدريبا وتسليحا.

بيقين لم يأت «عبدالناصر» ورفاقه إلى السلطة من خارج سياق الحركة الوطنية ولا كانت لهم أهداف تتعدى مطالبها الرئيسية.

كان سياسيا قبل أن يكون عسكريا، مر على «مصر الفتاة» و«الإخوان المسلمين» و«حدتو» لكنه لم يلتحق بعضوياتها.

وهو يقاتل فى فلسطين كتب فى مذكراته الشخصية «لقد فقدنا ثقتنا فى حكامنا وقياداتنا» وبدا مقتنعا أن التغيير من القاهرة وعندما رجع إليها أعاد بناء الهيئة التأسيسية للضباط الأحرار.

كان النظام الملكى يتهاوى ولم يبق غير أن يتقدم أحد لإزاحته.

بأى تعريف كلاسيكى لما جرى ليلة (٢٣) يوليو فهو انقلاب عسكرى.

غير أن الحدث الكبير لم يستغرق وقتا طويلا حتى استحق صفة الثورة.

وقد كان عميد الأدب العربى الدكتور «طه حسين» أول من أطلق وصف الثورة على (٢٣) يوليو بعدما كانت تسمى فى بداياتها بـ«الحركة المباركة».

استدعاء الصفات من احتياجات مجتمعاتها.. وقد كانت مصر بحاجة ماسة إلى التغيير الجذرى فى بنية العلاقات الاجتماعية والتوجهات الاستراتيجية حتى يمكنها أن تلتحق بعصرها وتستحق الانتساب إليه.

الثورات تجهض عندما يقف زخمها فى منتصف الطريق.
لا القديم أزاحته ولا الجديد بنته.
بتلخيص ما فإن يوليو الثورة الوحيدة فى التاريخ المصرى الحديث كله التى استوفت تجربتها وطرحت مشروعا كاملا للتغيير.
الثورة العرابية فى ثمانينيات القرن التاسع عشر أجهضت سريعا واحتلت مصر ونفى زعيمها.

وثورة (١٩١٩) أحدثت اختراقا كبيرا فى قواعد اللعبة السياسية دون أن تتمكن لأسباب كثيرة من تحقيق هدفيها الرئيسيين: الاستقلال والدستور.

جرى إجهاض الأول والتلاعب بالثانى.

كما لم تنجح ثورتا «يناير» و«يونيو» فى بناء نظام جديد ينسخ ما قبله ويلبى دعوات الحرية والعدل والكرامة الإنسانية.

بتلخيص آخر، وأيا كانت حدة الانتقادات وفداحة الأخطاء، لا توجد ثورة مصرية أخرى تضاهى يوليو فى عمق الإنجاز وحجم التحول وقدر الأثر.

غير أنه لا توجد ثورة خالدة فى التاريخ.

يوليو لعبت دورها فى عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية بقدر ما لعبت ثورة (١٩١٩) دورها فى عالم ما بعد الحرب العالمية الأولى.

لكل ثورة سياقها التاريخى و«يناير» ثورة هذا الزمان حيث طفرة الاتصالات والمعلومات.

يصعب تجاوزها دون أن تكون الكلفة باهظة والحساب عسيرا.

ورغم أية محاولات لاصطناع القطيعة بين ثورات مصر، فكل منها تتصل بما سبقها.

لذا لم يكن غريبا أن تتصدر صور «جمال عبدالناصر» مشاهد «يناير» و«يونيو».

هناك جديد يولد لكنه يستحضر قوة تجربته فى يوليو للبناء عليها فى أزمان جديدة.

الاستلهام غير الاستنساخ.

فى الذاكرة الجماعية للمصريين فيوليو هى الثورة التى استوفت تجربتها، انحازت وغيرت، قالت وأنجزت، انتصرت وانهزمت دون أن تستسلم.

فى سنوات يوليو أطلق «عبدالناصر» أوسع عملية حراك اجتماعى بالتاريخ المصرى كله نقلت أغلبية المصريين من هامش الحياة إلى متنها.

لم يتحدث عن العدل الاجتماعى كصدقات تدفع بل كحقوق تستحق، وقد أخلص للمصريين العاديين الذين خرج من صفوفهم.

إذا لم تكن هناك سياسات معلنة للعدل الاجتماعى فأى كلام عنها يفتقد مصداقيته وأثره.

قيمة «عبدالناصر» الحقيقية أنه كان يصدق نفسه ويصدقه الناس.

عندما يتحدث عن حقوق العاملين فإن سياساته تسبقه.

قد تتفق أو تختلف معه لكنك لابد أن تستشعر اتساقا كبيرا فيما يقول ويفعل.

هناك انحيازات اجتماعية كبرى التزم بها بلا مساومة عليها.

ألزم نفسه بأنماط الحياة التى كان يعيشها قبل أن يصبح زعيما لا يدانى نفوذه أحد آخر فى العالم الثالث كله.

نزاهته الشخصية من أسباب رسوخ صورته فى التاريخ.

كان رجلا بسيطا بصورة مذهلة لا يعرف شيئا عن مباهج الدنيا باستثناء هواية التصوير ومشاهدة الأفلام السينمائية فى أوقات فراغه.

كانت قضيته هى عالمه.

لم يكن فى حاجة إلى دعايات ليدرك المصريون أنه رجل صادق فيما يقول ويفعل.

لهذا السبب خرجت الملايين فى مصر وعالمها العربى على نحو استثنائى مرتين.

الأولى، لرفض تنحيه عن السلطة فى أعقاب هزيمة (١٩٦٧) ودعوته لمواصلة القتال.

والثانية، فى وداعه بعد ثلاث سنوات وقد كانت جنازته الأكبر فى التاريخ.

لماذا اكتسب هذه المكانة الاستثنائية وظلت صوره ملهمة حتى الآن رغم ما تعرض له من حملات تشويه وتشهير؟

ببساطة لأنه اتسق مع احتياجات ناسه، استمع إلى أناتهم وسبقهم دائما بخطوة أو اثنتين، ارتفع إلى مستوى التحديات واكتسب كاريزميته الاستثنائية من مواقفه ومعاركه التى خاضها بلا وجل.

فى اللحظة التى قال فيها: «رئيس الجمهورية.. تؤمم الشركة العالمية لقناة السويس شركة مساهمة مصرية» فإنه لامس عمق الوطنية المصرية وكبرياءها الجريح كما لم يلامسها أحد آخر فى العصر الحديث كله.

وفى اللحظة التى أعلن فيها من الجامع الأزهر الشريف نداء المقاومة «الله أكبر» فإنه دخل التاريخ من أوسع أبوابه وألهم حركات التحرير فى العالم الثالث كله.

لا يقول عاقل واحد إن بوسع دولة نامية استقلت للتو أن تهزم عسكريا الامبراطوريتين الفرنسية والبريطانية ومعهما إسرائيل غير أن روح المقاومة والتصميم على القتال صنعت نصرا سياسيا تاريخيا وضع مصر فى مكانة دولية وإقليمية رفيعة وبدت القاهرة إحدى العواصم الكبرى فى صنع القرارات الدولية لا يستطيع أحد تجاهل كلمتها.

عندما ولدت زعامته فى أتون حرب السويس مضى قدما فى بلورة مشروعه، وأية ثورة بلا مشروع لا تقدر على أية مواجهة ولا تصنع أى إلهام.

قوة «عبدالناصر» فى مشروعه السياسى ونموذجه الإنسانى معا.

وهذا سوف يعيش طويلا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved