حتى لا نخطئ فى تحديد العدو

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الأربعاء 22 أغسطس 2012 - 9:50 ص بتوقيت القاهرة

تتهاوى مكانة القضية الفلسطينية فى العمل السياسى العربى حتى لقد باتت تثير ضجر القيادات السياسية والدبلوماسية، وتحول إدراجها على جدول اعمال أية قمة عربية أو إسلامية أو دول عدم الانحياز إلى بند روتينى يفرضه التعود أو التخوف من لوم المزايدين من محترفى تسجيل المواقف بالكلمات المدوية فى قلب الفراغ.

 

تشهد على ذلك محاضر القمم العربية، ومثلها الإسلامية، فضلا عن التصريحات المفرغة من أى مضمون والتى تصدر عن لقاءات كبار المسئولين العرب أو اجتماعاتهم مع القادة الأجانب، والأمريكيون منهم على وجه الخصوص.

 

وبهتت صورة «منظمة التحرير الوطنى الفلسطينية» التى ذابت فى «السلطة» التى تكاد تكون أقل من «مجلس بلدى»، وإن استمرت الألقاب تحيط بأسماء أصحاب المناصب المفرغة من أى مضمون يستوى فى ذلك «فخامة الرئيس» و«معالى الوزير» و«سعادة السفير»، مع الإشارة إلى أن كلا منهم لا يتنازل عن أى من امتيازات المنصب.. لا سيما ألقاب التشريف والتعظيم.

 

الأخطر أن «القضية» تفقد وهج قداستها حتى فى الأوساط الشعبية العربية، لا سيما مع استمرار الحملة السياسية والإعلامية على « الفلسطيني» كانسان احتل، ذات يوم، مكانة مميزة فى عيون إخوانه العرب الذين آمنوا بالفعل بحقه فى بلاده التى طرد منها نتيجة تخاذل حكامهم وضعف جيوشهم وغياب الخطة، بما سهل على العدو الإسرائيلى المعزز بدعم دولى غير مسبوق أن يحتل بعض فلسطين فى العام 1948، ثم أن يستكمل احتلالها بعد هزيمة الخامس من حزيران ــ يونيو ــ 1967.

 

•••

 

على أن الكارثة لم تتكامل فصولا إلا مع إقدام الرئيس المصرى أنور السادات على إخراج مصر من ميدان القضية المقدسة باتفاق فك الاشتباك ثم بالذهاب إلى القدس المحتلة ولقاء القادة الصهاينة بوهم انه ينهى الصراع التاريخى، قبل أن يتابع مسيرته إلى الصلح المنفرد بمعاهدة كامب ديفيد.. وكان بين مقتضيات التمويه أن تشن حملة شرسة على الفلسطينيين عموما تستعيد قاموس الإهانات والشتائم ومنها اتهام «بيع أرضهم» وتخاذلهم فى الدفاع عنها بكل المقدسات التى تجعلها مميزة بين بلاد الله.

 

كانت الثورة أو المقاومة الفلسطينية قد خسرت الأردن، بداية، بعد مذابح أيلول ــ سبتمبر ــ 1970.. ثم خسرت لبنان بعد أن أغواها سياسيوه باتخاذه منطلقا لعملياتها ضد العدو الإسرائيلى، تمهيدا لأن يحاولوا الاستقواء بسلاحها فى صراعاتهم الداخلية. وهكذا خسرت التأييد الشعبى الواسع فى لبنان من دون ان تتقدم ذراعا فى اتجاه فلسطين، بل لقد غدت ــ بعد لبنان ــ أبعد عن فلسطين مما كانت فى أى يوم. وقبل أن تخرج من بيروت التى أغوت قياداتها فأفسدتهم كانت قد خسرت سوريا لأسباب يطول شرحها، وان كان يمكن اختصارها بالصراع على قيادة الأمة، بين صاحب الأرض المقدسة وبين المتحكم بالطريق إليها. وحسم العدو الإسرائيلى هذا الصراع باجتياح لبنان وإخراج المقاومة الفلسطينية منه فى صيف العام 1982.. وبالتحديد بعد سنتين تماما من إقدام الرئيس العراقى صدام حسين على شن حربه المدعومة من أهل النفط والغرب بقيادته الأمريكية، على إيران الثورة الإسلامية بقيادة الخمينى.

 

ولقد كان الشعب الفلسطينى، مرة أخرى، أعظم ضحايا تلك الحرب التى أعقبها غزو صدام حسين الكويت انتقاما من أهل النفط الذين دفعوه إلى قتال إيران لمدة ثمانى سنوات طويلة ومكلفة بضحاياها وخسائرها الاقتصادية ثم تخلوا عنه وبلاده محطمة ومفقرة بحيث لم ينفعه «الانتصار» فى التقدم إلى زعامة الأمة معززا بالمكافآت المجزية التى تمكنه من جعل العراق «بروسيا العرب»، المؤهلة لتحرير فلسطين. ذلك أن غزو الكويت سرعان ما اتخذ ذريعة لضرب العراق لإخراج عسكره منها عام 1991، ثم لإقدام القوات الأمريكية على احتلال العراق جميعا سنة 2003 وتحطيم دولته وإعدام رئيسه المغامر الذى توهم فيه الفلسطينيون لفترة القدرة على مواجهة إسرائيل وإلحاق الهزيمة بها.

 

بعد احتلال العراق طردت الكويت ومعها بعض أقطار الخليج حوالى نصف المليون من الفلسطينيين الذين أسهموا بقدراتهم وخبراتهم فى بناء تلك الدول الغنية التى استولدها النفط فى قلب الصحراء.

 

صار الفلسطينى طريدا، بل انه صار مطاردا وضيفا ثقيلا فى معظم البلاد العربية، فلا حاضنته المصرية عادت تقبله، ولا دول الخليج تأويه برغم احتياجها إليه، وله مع الأردنيين مشكلة معقدة إذ يرونه مزاحما خطيرا وطامعا بالإمارة البدوية التى استولدت مملكة هاشمية لتؤمن ــ مسبقا ــ المشروع الإسرائيلى فى فلسطين، ولا لبنان يرضى بوجوده فيه الا كلاجئ ليس له حق العمل الشرعى فيه مهما كانت كفاءاته.. وبقيت سوريا وحدها، ولأسباب تاريخية، من يعطيه حقوق المواطن، فى العيش والعمل، من دون حق الانتخاب الذى لا يمارسه السورى بالولادة أصلا.

 

وها هى الانتفاضة السورية ضد النظام والتى ترفع بعض فصائلها الشعار الإسلامى، تحرج الفلسطينيين فيها وتكاد تخرج القيادات من معارضى سلطة محمود عباس منها، فلا يجدون إلا القاهرة مأوى جديدا، مفترضين ان «الحكم الإسلامى» فيها سيكون أرأف بهم من «حكومات العلمانيين» وكذلك من الدول التى تحكم بالقرآن والسيف.

 

•••

 

من هنا تكتسب الجريمة البشعة التى وقعت ضد الجنود المصريين الصائمين فى رفح، قبل أيام، أبعادا خطيرة جدا، من خلال التسرع باتهام تنظيم فلسطينى مجهول بارتكابها، ثم من خلال حملة الكراهية الشرسة التى شنت ومازالت تشن على الفلسطينيين، شاملة بعض المسئولين المصريين، ومنهم رئيس الحكومة الذى « تهم» بأن أمه فلسطينية، أبعادا خطيرة جدا.

 

وبغض النظر عن الظلم الفادح فإن الأخطر هو التقاعس عن محاسبة المسئولين من القادة العسكريين، ثم السياسيين الذين تناسوا الدور الإسرائيلى فى تلك العملية الإجرامية وما أعقبها من تدخل إسرائيلى فظ ينتهك كرامة مصر دولة وشعبا.

 

وبهذا تكتمل الدائرة، ويصبح الفلسطينيون شعبا من المنبوذين، تطاردهم الأنظمة العربية وبعض الجماهير، بحملة تشهير بشعة، تغطى على التخاذل فى مواجهة إسرائيل، ومحاول التنصل من معاداتها، والتأكيد على الالتزام باتفاقات الصلح المنفرد المهين معها، والذى يرى فيه الكثير من العرب امتهانا لكرامة الشعب المصرى وخضوعا للإذلال الإسرائيلى المتعمد لأكبر دولة عربية.

 

فمن بقى داخل دولة إسرائيل او فى «حماية» احتلالها يعيش الإهانة والذل وافتقاد من يحميه من وطأة الجوع والقهر، ومن أخرج إلى جهنم اللجوء فى دول «إخوانه» العرب يعيش مطاردا، لا يجد فرصة للعمل ــ مهما كانت كفاءته ــ إلا «بالأسود»، أى من دون أى ضمانة.

 

•••

 

لا بد من إعادة تصحيح المنظور السياسى إلى القضية: فإسرائيل هى العدو والشعب الفلسطينى هو الضحية، حيثما وجد فى «الداخل» أو كلاجئ فى الخارج.

 

والشعوب العربية فى موقع «الفلسطينى»، مهما تعددت ادعاء الحكام لطمس الحقيقة وتمويه صورة العدو، هربا من ميدان المواجهة الأصلى، مع الإسرائيلى الذى ليس له من صفة إلا العدو الوطنى والقومى والدينى لمن يتمسك برفع الشعار الإسلامى راية للهرب من الميدان.

 

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved