شفرة.. نور

كمال رمزي
كمال رمزي

آخر تحديث: الإثنين 22 سبتمبر 2014 - 7:55 ص بتوقيت القاهرة

لا علاقة للغرفة الواسعة التى دخلتها، منذ ما يقرب من العقدين، بالحرجرات الأنيقة لمكاتب المنتجين. هى أقرب للصومعة أو المكان الخاص بعمل الصحفى أو الباحث أو الناقد: أكوام من الكتب اكتظت بها الأرفف، وجدت طريقها إلى الأرض. الكثير منها قديم، مهترئ الأغلفة، بعضها جديد، لم يفتح بعد. مسرحيات، روايات، دراسات فى التاريخ والسياسة والشخصيات الشهيرة، بالإضافة إلى ملفات منتفخة بمقالات من مجلات وجرائد، بعضها، مربوط بالدوباء، والبعض الآخر، فيما يبدو، ينتظر المزيد من القصاصات.. فوق منضدة كبيرة سيناريوهات، كشاكيل، أوراق، عدة أفلام.. إنها مكتب نور الشريف، فى شقة شركته الواقعة بعمارة على ناصية شارعى عماد الدين ورمسيس.

سبب الزيارة: إجراء حوار مطول، تفصيلى، ينشر على عدة أعداد، من مجلة «فن» اللبنانية، ذات التوجه العروبى، التى ظلت تصدر، أسبوعيا، طوال عشر سنوات «1988 ـ 1998»، برئاسة تحرير وليد الحسينى.. نور الشريف، أيامها، يسطع على الشاشة، برصيد أكثر من مائة وخمسين فيلما، قدم خلالها شخصيات من مختلف الطباع والمهن، يحقق فيها بصمته الخاصة، وهو ف ىهذا، لا يعتمد على مجرد موهبته فى الأداء، بطريقة عفوية، لكن يلجأ إلى مرجعية بالغة الأهمية، موثوق فى جدواها، لها أسرارها النافذة، تتوافر فى تلك الكشاكيل والكراسات الموضوعة على المنضدة.. إذا قلبتها، ستجدها إما تسجيل ملاحظات أدباء عن أبطالهم، أو ترصد ما قد يراه نورا ملفتا، فى شخصيات يلتقيها واقعيا.. هذه الأوراق، عند نور الشريف، من ينابيع الإبداع التى تمده بطاقة متجددة، لا غنى عنها.

أتذكر، من حديثه الممتع، ذلك التقدير الرفيع للكاتب الروسى،دوستويفسكى، الخبير بالنفس الإنسانية، الذى يمتد اهتمامه من تحليل التكوين الداخلى لأبطاله، إلى شكلها الخارجى، حركتها، ملابسها، تعبيرات وجوهها.. فى «سونيا والمجنون» لحسام الدين مصطفى 1977، المأخوذ عن رواية «الجريمة والعقاب»، يؤدى دور ضابط المباحث الذى يصفه دوستويفسكى بأنه بدين، أصلع، صوته مخنث، يضع المنديل فى كم جاكتته، وعنده حركة عصبية فى عينيه.. تعمد نور ارتداء معطفا عريض الكتفين، فاتح اللون، كى يكون حجمه كبيرا، وأن يبدو صوته ناعما، مدركا أنه يتعامل مع قاتل شديد الذكاء.. أما حركة العينين العصبية، فإن نور استعان بها فى فيلم «مع سبق الإصرار» لأشرف فهمى 1979، حيث يقوم بدور مدرس ريفى مهزوز، مهزوم، كسير القلب، من الممكن أن يكون قد أصيب بـ«رمد حبيبى» فى طفولته.

أما عن مصادره الواقعية، فإنها تعتمد على عين لاقطة، تنتبه إلى دلالة التفاصيل، فعلى سبيل المثال، يعترف نور بسعادته حين علم باحتراق المشاهد الأولى من «العار» لعلى عبدالخالق 1982، لأنه لم يستوعب الشخصية كما يجب.. عاد إلى كراريسه ليجد ضالته ف ىرجل راقبه فى أحد ملاهى الإسكندرية، لا يتوقف عن الإتيان بحركتين: يمد رقبته للأمام كما لو أنه يريد التخلص من طوق حول رقبته.. ويرفع رسغيه لأعلى كما لو أنه يخشى اقتراب يديه من أطباق الطعام.

سأل عن الرجل. عرف أنه يحب راقصة، لم يشفع له ماله، فالراقصة أصرت على أن يستبدل جلبابه البلدى ببذله عصرية. رضخ إلى طلبها. ولأنه لم يتعود القميص المتقفل الأزرار وربطة العنق، فإنه يحس بالاختناق، وبالتالى يمد رقبته للأمام بين لحظة وأخرى.. ولأن الجلباب عادة يكون متسع الأكمام، فمن الطبيعى أن يرفع الرجل يديه لأعلى كى لا ينغمس طرف الكم فى طبق الطعام.. ولأن وضع نور، فى «العار»، من بعض الوجوه، يتشابه مع وضع الرجل، قرر أن تغدو الحركتان ملازمتين له.

مصادر نور الشريف، الدءوب، ثرية التنوع، تزيده صدقا وألقا، سواء فى الشكل الخارجى أو التكوين الداخلى.. فى المرحلة الأولى لـ«عبدالغفور البرعى» ــ لن أعيش فى جلباب أبى، لأحمد توفيق 1995 ــ أخذ الشكل الخارجى من عمال التراحيل الذين يجلسون كل صباح، عند سور نادى الزمالك، ينتظرون من يطلبهم للعمل: الجلباب المقطوع من الجنب. «المداس» القديم كالح اللون. تشقق الكعبين، خشونة الكفين، الذقن غير الحليقة، ربط الطاقية حول الرأس بقطعة قماش.. داخليا، تعبر عنه تلك النظرة المسالمة، المستكينة، التى تلتمع بالأمل، عندما يقترب منهم أحد يطلب عمالا.

أما فى مرحلة الثراء فإن نور الشريف يستوحيها من محمود إسماعيل فى فيلم «سمارة» لحسن الصيفى 1956: عمامة من حرير، شال أنيق، معطف من الصوف. تحته جلباب نظيف، يغطى السروال الطويل، وصديرى بأكمام، فضلا عن الثقة فى النفس، لأسباب جد مختلفة.

ذاكرة نور الشريف، المتوافرة فى كراريسه، بالنسبة له، أقرب للمنجم، أو مغارة على بابا، تمتلئ بالجواهر، جمعها بجهده، وجديته، وطاقته الإبداعية الخلاقة، يغترف منها ما يحتاج له، فهو، يعلم ما بها، ويعرف شفرتها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved