المسناوى.. نسيم المغرب

كمال رمزي
كمال رمزي

آخر تحديث: الأحد 22 نوفمبر 2015 - 8:35 ص بتوقيت القاهرة

ضيوف المهرجانات، أشكال وطباع: الطويل والقصير، من له كرش والمشفوط البطن، المتأنق وغير المهتم، العصبى الغاضب الذى لا يرضيه أى شىء والمتسامح، الحليم، منشرح الصدر.. وثمة، الجاهل المغرور، والعالم المتواضع.. إنها نماذج سابقة التجهيز، مُعدة سلفا، لا يمكنك تغيير إشعاع طاقتها، سلبا أو إيجابا. مع التجربة، يدرك المرء، مع من، ومتى، يقترب من هذا الضيف أو ذاك.

بالنسبة لى، تقترن المهرجانات بضيوفها، فأحيانا، تبدو مملة، ثقيلة إذا كان روادها من النوع السمج.. وأحيانا، تأتى ممتعة، ثرية، مبهجة، إذا تواجد فيها هذا الصديق الغالى، الحميم، الأقرب للجزيرة الآمنة، ذلك أنه يتمتع بنوع فريد من السلام الداخلى، فضلا عن رحابة الثقافة وعمقها، فهو دارس للفلسفة، كتب القصة والمسلسلات التليفزيونية، أصدر مجلات عدة، ترجم أكثر من كتاب، بالإضافة لكونه، من قبل ومن بعد، ناقدا سينمائيا، يعزف تماما أصول الفن السابع، وتاريخه، كما يدرك قواعد النقد بمدارسه المختلفة، وكتاباته كلها، تتسم بذائقة متألقة، استقاها بإطلاعه على التراث العربى، واللغات الأجنبية التى يجيدها، الفرنسية، الإسبانية، الانجليزية.

إنسانيا، تتواصل الصداقة مع مصطفى المسناوى، على نحو فريد، فحين تلتقيه، بعد شهور طويلة من البعاد، يستكمل معك آخر عبارات تبادلتموها سابقا.. عندئذ، يتلاشى الفاصل الزمنى، ويتهيأ لك أنه لم يغب عنك، طوال الفترة السابقة، بل تدارك أنه تحول من صديق عمر إلى جزء من عمرك، ذلك أن فهمه الشامل، العميق، الصحيح، للعلاقات بين المشرق والمغرب العربى، فى مجال عالم الأطياف، بنشأته، وملابساته، وتطوره، يغدو عنصرا أصيلا من رؤيتك.

مصطفى المسناوى، الهادئ، لا تفارق الابتسامة وجهه، قد يبدو متوافقا مع كل ما يجرى، لكن حين تعرفه عن قرب، تدرك مدى قوة عقليته النقدية، وكيف يرى الجانب الآخر من أمور لم نلتفت لها فعلى سبيل المثال، وعلى العكس من السعداء المتحمسي للإرسال التليفزيونى، طول الأربع والعشرين ساعة، من مئات القنوات، تجده يقول: المشكل أن هذا الغزو لم يعد مقبولا فحسب من قبل معظم المواطنين عبر العالم، بل أصبح مطلوبا، مرغوبا فيه، رغم تعطيله للعديد من الملكات البشرية والعادات الاجتماعية الأساسية: لقد حول التليفزيون الكائن البشرى، الاجتماعى بطبعه، إلى كائن «متوحش»، منكفئ على ذاته، عازف على التواصل مع نظرائه من بين البشر، كما أوجد لديه هم إمكانية تعويض العديد من الأنشطة الثقافية والفكرية، من قبيل قراءة الكتب والخروج لمشاهدة المسرحيات والأفلام السينمائية وحضور الحفلات الموسيقية.. إضافة إلى عمله على تعطيل ملكتى التفكير والنقد لدى المواطن وتحويله من كائن اجتماعى إلى كائن سلبى منفعل، يكتفى بالفرجة على العالم المحيط به بدل أن يستشعر ضرورة الفعل فيه.. هكذا، بدلا المشاركة، مثلا، فى مظاهرات احتجاجية ضد طلبيات الواقع، صار المشاهد يحس بأنه يقوم بالواجب وبما هو أكثر منه حين يجلس فى بيته ويتابع الفضائيات الإخبارية التى تقوم بنقل المظاهرات التى تنظم فى مختلف أنحاء العالم وحتى فى بلاده هو بالذات.

هكذا، المسناوى المتأمل، يرى الأمور، برصدها، فى تفاصيلها، ويتجلى منهجه هذا، حين يتعرض للسينما المصرية، التى يقدر دورها الوطنى، القومى، عندما درحت محاولات السلطات الفرنسية الاستعمارية، الرامية إلى إيجاد سينما بديلة للأفلام المصرية التى تعلقت بها أفئة المغاربة.. لكن المشكلة فى السينما المصرية، دون قصدية مارست «سلطة البداية».. تعلق بها المشاهد على نحو أدى إلى إلغاء، أو تأجيل، ظهور سينمات محلية فى مجمل البلاد العربية.

بنزاهة، ونفاذ بصيرة، يلفت المسناوى النظر إلى المخرجين المحدثين، المغاربة، بنزعاتهم الحداثية، المتأثرة بالاتجاهات الجديدة، فى الدول التى درسوا فيها، مثل فرنسا وإسبانيا، جاءت بعيدة عن ذائقة جمهور يعشق أغنيات ونجوم ونجمات وميلودرامات وبوليسيات الأفلام المصرية، فضلا عن لغة الحوار المتعسفة فى أفلام مغربية، مؤلفوها يكتبونها بالفرنسية، وترجمتها تتم فورا أثناء التصوير.

مصطفى المسناوى «١٩٥٣ ـ ٢٠١٥» الرقيق، المتواضع، الذى يجعلنا نتلمس الأجزاء المخفية من جبل الجليد العائم، يغادرنا فجأة، جسدا.. لكن روحه الشفافة، تظل مرفرفة على النيل الذى أحبه، وامتلأت عيونه بجماله، قبل الرحيل بدقائق.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved