رأسمالية ترگيب الزراير

عمرو عادلى
عمرو عادلى

آخر تحديث: الأربعاء 23 أبريل 2014 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

أتذكر أننى زرت أحد مصانع شبرا الخيمة إبان عملى فى أحد البنوك الخاصة، وكان العميل قد تقدم بطلب قرض فكان على زيارة المصنع الذى يملكه والعائلة، وقد كان المصنع صغيرا لا يوظف أكثر من عشرين عاملا بغالبية نسائية، وكان التخصص كما أذكر هو تركيب الأزرار ـ أو الزراير فى العامية المصرية، جمع زر ـ فى قمصان مستوردة بغية إعادة تصديرها، واستعرض صاحب المصنع آنذاك دور مصنعه الصغير فقال إن القمصان تأتى جاهزة من الصين فى طريقها لأوروبا، وفى الطريق تمر بمصر على مصنعين أحدهما، وهو مصنعه، يقوم بتركيب الأزرار فى القمصان، والأزرار نفسها مستوردة، فكل القيمة المضافة تأتى من قيام عاملين غير رسميين.ـ طبقا لصاحب المصنع فإن العمالة لا تدوم لأكثر من أسبوع أو أسبوعين وهى عمالة باليومية عديمة المهارة لأن كل المطلوب من العامل هو تركيب الزر فى القميص. ثم يتم شحن القمصان إلى مصنع آخر بجواره ليغلفها فى أكياس بلاستيكية لتصديرها للخارج.

•••

غير خاف على المتخصصين فى شئون التجارة والتصنيع أن تجزئة سلسلة إنتاج السلعة الواحدة قد أصبح هو النمط الغالب فى العقدين الماضيين، فما من مشكلة مبدئية مع تخصص مصنع بعينه فى تركيب الأزرار أو فى الصباغة أو فى التغليف، ولكن جوهر المشكلة يكمن فى موقع كل مصنع. والبلد الذى يقع فيه المصنع. فى سلسلة الإنتاج هذه، فالعائد الذى يتحقق من وراء بيع القطن الخام لصناعة القميص يقل كثيرا عن العائد المتحقق من غزل ونسج القطن، وهو عائد بدوره يقل كثيرا عما يمكن أن يتحقق من وراء تصميم الأزياء، لذا فإن مكمن المشكلة أن يكون دور المصنع محل الذكر هنا مقتصرا على الإتيان بعمالة غير ماهرة رخيصة للغاية تقوم فحسب بوضع الأزرار المستوردة على القميص لأن إسهامه فى القيمة المضافة هنا محدود للغاية، ويكمن التحدى الحقيقى أمام حكومات الدول المختلفة فى توفير مزايا تنافسية لمصانعها حتى تحتل مواقع أفضل فى سلاسل إنتاج السلع، ويكون وبزيادة نصيبها فى القيمة المضافة من كل منتج، واحتلالها مواضع أكثر تقدما فى سلاسل الإنتاج، ومن هنا يمكن فهم سعى الكثير من الحكومات إلى دعم وتحفيز القطاع الخاص حتى تظهر منه شركات لها علامات تجارية باعتبار هذا دليلا على التربع على قمة سلسلة إنتاج سلعة ما كما هو الحال مع قطاع المنسوجات والملبوسات التركى أو حالة صناعة السوفت وير الهندية التى أصبح لها شركات لها اسم عالمى.

•••

ومن هنا فإن هذا المقال لا ينظر إلى اندماج مصر فى الاقتصاد العالمى على أساس أنه شر مطلق لا يقود إلا لمزيد من التبعية والإفقار، ولكنه فى الوقت نفسه لا ينظر لأى نمو فى الناتج أو فى الصادرات على أساس أنه فتح مبين، إذ إن المشكل الرئيسى لا يكمن فى الاختيار بين الرأسمالية وغيرها بقدر ما يكمن فى اختيار أى نمط من الرأسمالية، ولأن الرأسمالية ليست نظاما اقتصاديا واجتماعيا واحدا فإن محل النقاش العام فى مصر ينبغى أن يكون تفاصيل التحول الرأسمالى وما إذا كان قادرا على تحقيق التنمية. لا النمو الرقمى فحسب كما كان الحال فى السنوات السابقة على ثورة يناير. إذ ليس من المنطقى أن يتم الاحتفاء بنموذج رأسمالى لا يحقق أى تنمية تذكر، أو يؤجج الصراع الاجتماعى والسياسى لأنه يزيد الشعور لدى الكثيرين بالحرمان والإفقار، ومن هنا يأتى النقد للنموذج الرأسمالى الذى تم تطويره فى العقد الأخير من حكم مبارك، والذى لا تزال ملامحه الرئيسية قائمة كما هى على أساس أنه لا بديل لها.

فشل التحول الرأسمالى فى ظل حكومة نظيف (٢٠٠٤ـ٢٠١١) فى خلق مزايا تنافسية بديلة للاقتصاد المصرى إذ كان التوسع فى مجمله معتمدا على تصدير الطاقة الخام سواء بشكل مباشر فى صورة عقود تصدير الغاز الطبيعى أو بشكل غير مباشر فى التوسع المهول فى صناعات كثيفة استهلاك الطاقة كالأسمنت والأسمدة والحديد والصلب بأسعار مدعمة، هذا كله ومصر بلد مستورد صاف للنفط منذ ٢٠٠٦، ومستورد صاف للطاقة منذ ٢٠١٢ على الأقل مع انكشاف حقيقة أن مصر لا تملك فوائض من الغاز الطبيعى بالشكل الذى روجت له حكومة نظيف، وفى هذا الخضم ظلت إنتاجية العامل المصرى نتيجة لضعف الاستثمار العام فى التعليم والتدريب المهنى والرعاية الصحية والتأمينات الاجتماعية شديدة الانخفاض، وعاجزة عن منافسة نظرائها فى آسيا أو أمريكا اللاتينية، وظلت الصناعات كثيفة العمالة تحتل الدرك الأسفل من سلاسل الإنتاج وتسهم بأقل قيمة مضافة أو ظلت عاجزة تماما عن المنافسة، ومتحصنة خلف أسوار متهاوية من الحماية الجمركية وغير الجمركية.

•••

إن مربض الفرس هنا يتمثل فى خلق مزايا تنافسية بديلة عن الطاقة الرخيصة. التى من الواضح أننا لا نملكها. ولن يكون هذا إلا بالاستثمار فى العنصر البشرى حتى يكون أكثر إنتاجية، وبالتالى أكثر تنافسية، ولن يكون هذا إلا بإعادة هيكلة الإنفاق العام لصالح المزيد من الإنفاق الاستثمارى من ناحية بدلا من ذهاب ٧٥٪ من الموازنة فى مصروفات جارية بين الأجور والدعم وخدمة الدين، ولن يكون هذا كذلك إلا بزيادة الإيرادات الضريبية، خاصة تلك المباشرة من الأرباح الصناعية والتجارية والرأسمالية التى لا تتجاوز مساهمتها إجمالا ٦ أو ٧٪ من إجمالى الإيراد الحكومى، وحدها خطوات فى هذا الاتجاه وعلى مدى سنوات قادمة كفيل بتعديل نموذج التحول الرأسمالى غير التنموى الذى نشأ فى عهد مبارك، ويراد له الاستمرار لا لشىء إلا لأن كثيرا من المهيمنين على الشأن الاقتصادى فى الدولة وفى مجتمع الأعمال لا مشكلة لديهم مع الاستمرار فى رأسمالية تركيب الزراير.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved