غريب أمر رئيسـنا القـادم

أهداف سويف
أهداف سويف

آخر تحديث: الأربعاء 23 مايو 2012 - 8:15 ص بتوقيت القاهرة

أكاد أراه قادما من بعيد، يظهر ويختفى. الغيوم تغطى الشاشة الكبيرة، وهناك رعد وأمطار متقطعة، ثم لحظات صفاء مفاجئة نراه فيها على البعد، ثم تخفت الإضاءة فيختفى مرة أخرى. شريط الصوت غناء وهتاف وضرب نار وصراخ وقرآن وتراتيل ــ ثم هتاف وغناء وأناشيد. يظهر الرجل ــ فنحن نعرف جندره على أى حال ــ آت من بعيد، يأتى مخترقا تلال قمامة وغابات نخيل، يمشى فى حوارى العشوائيات وممرات القصور، يبدو ماردا ويبدو ضئيلا، فتيا جديدا قويا زعيما كهلا حكيما ثقيلا خبيرا.. رئيسا للكل ــ وليس فقط لمن انتخبوه.

 

فى كادر آخر نرى إدارة عاصمته، ببَلادة حس غير مسبوقة، تستعد لحضوره بمحو عمل فنى تاريخى.

 

فى جدارية محمد محمود صوَّر لنا الشبابُ مصرَ كلها: مصر بشخصيتها، بآلامها وآمالها ودستورها المرتقب. فى الجدارية وصلوا إلى ما يبحث عنه كل فنان فى التاريخ: عمل يحمل روح الكل، وإلى ما يحلم به كل فنان فى التاريخ: عمل يصل للأيقونية وهو بعد حى ينمو. وجاءت البلدية وقتلته، لأنه يشوه الشكل الحضارى للجدار.

 

صمت.

 

وبعد،

 

ماذا يكون أول فعل رمزى لرئيسنا الجديد؟

 

هل يأتى إلى محمد محمود ويمسك بالفرشاة؟ وإن لم يكن يجيد الرسم فيكفى أن يقوم بالتلوين: خمس دقائق يلون فيها ريشة ماعت أو جناح مينا أو عمامة الشيخ عماد بالأبيض الناصع.

 

هل يأخذ جاروفا ويزيل مترا مكعبا من الزبالة من أى شارع متدارى فى العاصمة؟ أو ملء جردل واحد من الزبالة من أى ترعة؟

 

هل يطلب لقاء الشباب الذين قاطعوا الانتخابات؟ الأنقياء الذين رفضوا التصديق على إجراء يتم تحت مظلة قتلة ومعذبى إخوانهم ــ يلتقيهم ويقول لهم «انتهى حكم العسكر» ويكون صادقا؟ هل يعقد مؤتمرا للمصابين؟ ومؤتمرا للألتراس؟ هل يقيم عزاء ضخما فى التحرير لجميع شهدائنا ويلتقى أمهاتهم وأهلهم ويشكرهم؟

 

ماذا نريد منه؟ نحن، المواطنون؟

 

نريده أن يعرف أنه ليس إلا موظفا عندنا، أجره من ضرائبنا؛ المدير العام للجهاز التنفيذى للدولة التى نريد استعادتها. أو المفكِك للدولة الفاسدة المنهارة التى نريد حلها تماما، وإنشاء مكانها دولة جديدة فتية نظيفة تؤمن لكل أبنائها حياة حرة كريمة. أو التى من المفضل أن نقيم مكانها كيانا جديدا، لا نعرف إن كنا سنطلق عليه اسم «دولة»، لكننا نعرف اننا نريده كيانا عضويا لا مركزيا، مرنا، شابا، مبدعا، يتعايش بسهولة مع سمات مجتمعنا، يساعد ويدعم كل مواطنة ومواطن فى تحقيق أفضل ما فيهم، ويضع حقوق كل فرد فيه فى محور اهتماماته. 

 

 

نريده لا يفاضل تيارا على تيار، ولا يقصى أحدا، ويرسى المواطَنة أساسا لعلاقة الإنسان ببلاده.

 

نريده أن يدرك حجم مصر، وأهمية مصر شبه الميتافيزيقية للإنسانية كلها.

 

نريده أن يحترم نفسه، ويحترم بلده، ويحترم الكوكب الذى نعيش فيه.

 

نريده أن يكون الميزان فى مواجهة خلل الجهاز التشريعى.

 

نريده أن يكون الفاهم لأهداف الثورة والمؤمن بها فى تشكيل وتوجيه الوزارة.

 

نريده أن يكون السياسى المحنك والمواجه الشجاع الذى يضع قواتنا المسلحة فى مكانها الصحيح والمفيد للبلد.

 

نريده أن يدرك إمكانيات هذا البلد وموارده وإبهار شعبه ولا يبيع البلد ويبيعنا.

 

نريده ألا يشحت علينا بل يحفظ كرامتنا.

 

نريده قويا ودودا وليس فظا غليظ القلب.

 

نريده أن يعرف أعداءنا، ويعرف أصحابنا، ويعامل كل بما يليق.

 

نريده ملهِما ملهَما جسورا عاقلا شاعرا فلاحا اقتصاديا إداريا طموحا بليغا متواضعا محبا للعدل والفن والناس.

 

ونريده أن يعرف تماما انه بنى آدم زى البنى آدمين، وان عندنا أحسن منه ألف واحد وواحدة ممكن يديروا البلد لو جاءت لهم الفرصة ــ وأن يعمل على خلق الظروف التى ستتيح هذه الفرصة.

 

وتصوروا: مهما بلغ هذا الكلام من الخيال ــ إلا أنه كلام مشروع، وممكن التحقق. ومن ١٦ شهرا بس كان يبدو مستحيلا. هذه بركات الثورة.

 

ولولا الخسائر التى لا تعوض: لولا استشهاد الأحباب، وإصابات الأصحاب، لولا أولئك الذين رسمناهم على جدران القلوب قبل جدران وسط البلد، لقلت يا مرحب بهذه الحقبة التى يمكن أن تكون الأهم والأكثر تأثيرا فى تاريخ العالم الحديث؛ الحقبة التى نمر فيها نحن ــ أقدم كيان متعرف إلى نفسه اجتماعيا وسياسيا فى التاريخ ــ بأوجاع وأفراح هذه التجربة المتفردة، التى نستعمل فيها كل ما حابانا به الله والزمن من خبرة وحكمة وعلم وفن وصفاء فى محاولة ابتكار نماذج جديدة لتعايش الناس والطبيعة والأرض، نماذج سنطرحها أمام عالم هو بأمس الحاجة لها.

 

يا رئيس مصر القادم، عليك فقط أن تكون أجمل وأفضل وأمهر ما فى الإنسان؛ عليك أن تكون كما كنا جميعا، فى تحارير مصر كلها، من ٢٥ يناير إلى ١١ فبراير ٢٠١١.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved