التأسيس لتواجد عسكرى روسى مستدام فى سوريا

العالم يفكر
العالم يفكر

آخر تحديث: السبت 23 يونيو 2018 - 9:50 م بتوقيت القاهرة

نشرت مبادرة الإصلاح العربى ورقة بحثية تحاول مقاربة طبيعة علاقة القوات الروسية مع جيش النظام والميليشيات التابعة له والميليشيات التابعة لإيران، والإجابة عن تساؤلات تخص سيادة النظام فى دمشق، وقدرته على اتخاذ قراراته التى تخص الجانب العسكرى، أو قدرته على التحكم بسيرورة المعارك وإدارتها، والإمساك بمجريات الأحداث فى المناطق التى يسيطر عليها الثلاثى؛ النظام والإيرانيون والروس.
لقد ورث الجيش السورى بعض الأعراف التى اعتمدها الفرنسيون لإدارة شئون الجيش إبان الاحتلال الفرنسى، والتى لم يكن من بينها القوانين الناظمة لعمل الجيش. وبعد تولى البعث السلطة، وخاصة بعد تولى حافظ الأسد السلطة، اندثرت الأعراف الضامنة للحقوق الدنيا للجنود وصف الضباط والضباط تدريجيا، لتحل محسوبيات السلطة والتملق والولاء للشخص والنظام محلها. وأصبحت هى الضامن الوحيد للعسكر للحصول على حقوقهم، وأصبح قادة القطع العسكرية بمثابة ولاة على قطعاتهم، لا يتحرك شىء فيها إلا بحسب رغبة القادة ورضاهم.
وضع الروس يدهم على الجيش السورى، بشكل كامل، وبدأوا فعليا بترسيخ قوانين ناظمة للجيش، تكون ضامنا فعليا لانضباطه وتحويله لقوة محترفة قادرة على تحقيق مهام فعلية على الأرض، بما فى ذلك ترسيخ الولاء العسكرى للضباط الروس بين الجنود وصف الضباط، وترهيب الضباط السوريين لمنع أى محاولة لفرض سلطتهم، وجعلهم يحرصون على مراكزهم وامتيازاتهم، وترسيخ الروس بوصفهم قادة فعليين فى أذهان عناصر الجيش.
هذا الأمر يحيل مسئولية كل الفظائع التى ترتكبها قوات الأسد بقيادة روسية، على الروس بشكل أساسى. وبالتساوى مع ضباط النظام والشخصيات القيادية فيه، فرغم عدم قدرتهم على اتخاذ القرارات؛ فإنهم مسئولون من حيث الشكل والتموضع السياسى، عن كل قضايا القتل الجماعى والهجمات الكيميائية والتهجير والتجويع.. إلخ.
لذلك بات من الصعب فى الشأن السورى أن نفصل بين القيادة الروسية والنظام السورى، إلا بما يتعلق بالفصل القائم على التفريق بين القائد والتابع، هذا الفصل الذى تعمل روسيا على ترسيخه إعلاميا ودبلوماسيا، بوصفها تساعد على تحقيق السلام ومحاربة الإرهاب، فى الوقت الذى تستحق بشكل لا ريب فيه صفة المحتل القائم بكل صغيرة وكبيرة على الأرض السورية.

• ليس النظام السورى كتلة واحدة

عمدت وسائل الإعلام الموالية والمعارضة إلى اعتبار النظام كتلة واحدة، تسعى للسيطرة على كامل الأرض السورية، باتفاق مُعلن يهدف إلى بقاء نظام الأسد واستمرار حكمه. وهذا ما اصطُلِح على تسميته انتصارا للنظام على المعارضة، مع وجود تمايز بين النفوذ الإيرانى والنفوذ الروسى، يعبر البعض عنه بوصفه صراعا ناعما بين الحليفين.
ولكن الواقع يؤكد التمايز الشديد بين الرؤية الإيرانية لشكل النظام فى دمشق، والرؤية الروسية. لذلك من الصعب اعتبار التدخل الروسى على الأرض استكمالا لمشروع النظام بالقضاء على جميع أشكال المعارضة، وإن كان ذلك أحد المشتركات بين الحلف الثلاثى؛ الروسى، الإيرانى، النظام السورى.
فعلى الرغم من أن الدخول العسكرى الروسى المادى على الأرض السورية، جاء بغية إنقاذ النظام من مأزق عسكرى خانق، فهو جاء وفق شروط مغايرة. حيث يُسجَل للروس رشاقتهم وقدرتهم على التحرك بين جميع الأطراف الدولية والإقليمية الفاعلة فى الملف السورى، والتفاوض مع جميع الفصائل على الأرض، باستثناء الفصائل الجهادية المتشددة جدا.
القوات الروسية فى سوريا: قواعدُ عسكرية وكتائب حراسة
انتشرت القوات الروسية فى سوريا بداية فى مرفأ طرطوس البحرى، وقاعدة حميميم الجوية. وعمد الروس إلى تجنب الاحتكاك المباشر مع العنصر البشرى السورى، إلا ضمن سياقات محدودة. واتسع الاحتكاك لاحقا بشكل مدروس وضمن الإطار العسكرى، حيث شمل شريحة من الضباط الروس، تولوا مهام قيادة الفرق العسكرية فى سوريا.

• مرفأ طرطوس

يتألف المرفأ من جزءين، عسكرى ومدنى. وقبل قدوم القوات الروسية إلى هذه القاعدة البحرية، كانت البحرية السورية تعسكر فى جزئه العسكرى، بالإضافة إلى خبراء وضباط روس كانوا متواجدين فى المرفأ، وذلك ضمن بروتوكولات التعاون بين النظام السورى وروسيا، بدأت منذ تولى البعث السلطة فى سوريا.
حين وصلت القوات الروسية إلى مرفأ طرطوس، تم اقتطاع بضعة أرصفة تجارية من الجزء المدنى وضمُها إلى الجزء العسكرى، وقامت بعدة أعمال صيانة لتهيئة المرفأ. كما قامت القوات الروسية بنشر عناصر الحراسة على كامل محيط المرفأ المدنى والعسكرى، واستُقدمت لهذه المهمة، سرايا حراسة تابعة للفرقة الرابعة التابعة لجيش النظام، لتعمل مباشرة تحت إمرة ضباط روس.
أحكم الروس عمل سرايا الحراسة، وضبطوها بشكل ملحوظ، إذ سيروا دوريات تراقب عمل عناصرها، وتعاقب الضابط السورى المسئول عن أى مخالفة. وتبدأ عقوبات الضباط الروس من التحقير والتأنيب للضابط السورى أمام عناصره، وتنتهى بالسجن العقابى. وقد لا يسلم ضابط سورى، مهما علت رتبتُه، من الضرب أو التعنيف الجسدى والمعنوى فى حال إبدائه أى مقاومة.
واتخذ الضباط الروس مبنى حزب البعث القديم مكانا لإقامتهم، إضافة لبعض الفنادق، كما يتم الآن إنشاء منتجع سياحى على الكورنيش البحرى كاستثمار عسكرى للقوات الروسية.

• حميميم

قام الروس بتوسيع مطار حميميم منذ دخول قواتهم الأرض السورية، وهو القاعدة الجوية الرئيسية للروس فى سوريا. تحرس المطار كتيبتان من القوات الخاصة السورية، بشكل كثيف، كما تقوم بتقديم الخدمات للعساكر الروس فى القاعدة الجوية، من طعام وماء، وكل مستلزمات الحياة اليومية، بما فيها توصيل العسكريين الروس إلى فنادقهم فى اللاذقية. ومن اللافت أن سائقى الروس هم ضباط سوريون، تم تعيينهم منذ دخول القوات الروسية إلى المطار.

• مطار المزة العسكرى

كان هذا المطار الاستراتيجى المهم تحت الإدارة المباشرة للمخابرات الجوية السورية، وعندما تدخل الروس عسكريا فى سوريا، بسطت القوات الروسية سيطرتها عليه بالكامل، فأُخرجت منه عناصر المخابرات الجوية كافة، مستبقية كتائب الدفاع الجوى، التى تقوم بخدمات الحراسة وخدمات الأخرى. ويستخدمه الروس كمقر للقوات البرية، أكثر منه مطارا عسكريا. ولا يتدخل العنصر السورى فى إدارة المطار وشئونه.

• فيالق عسكرية تتشكل وفقا لمنظومة تعامل مُختلِفة

أعلنت القوات الروسية عن تشكيل الفيلق الرابع فى صيف عام 2016، أو ما يُسمى الخط الأحمر، وكان مركزه فى مدينة مصياف التابعة لمحافظة حماة، على مشارف الساحل السورى. ويتألف الفيلق الرابع من ألوية وكتائب وسرايا تابعة لجيش النظام السورى، تحت إدارة روسية مباشرة. حيث يُشرف ضباط روس على التدريبات، والحراسة، والتذخير، وتوزيع القوى، والتخطيط العسكرى الكامل. كما يُشرف الروس على إجازات العناصر السورية، وعلى دفع رواتبهم بالدولار الأمريكى.
وأعلن النظام عن تشكيل الفيلق الخامس ــ اقتحام، ومقره فى اللاذقية، معسكر الطلائع (معسكر سابق لتلامذة المدارس قرب مدينة اللاذقية). بدأ الروس ببناء قوامه من المتطوِعين الذين أغرتهم الرواتب الجيدة. وكما فى الفيلق الرابع، كان كل شىء تحت إشرافهم المباشر. وكذلك الأمر بالنسبة للفيلق السادس فى قطنا فى دمشق حيث تتواجد الفرقة العاشرة التابعة لجيش النظام، والتى تم تحويلها مع مقراتها بالكامل لمقدرات الفيلق السادس. وتميز الفيلق السادس، باستقبال المجنَدين الإجباريين، والاحتياط من قوات النظام، كما سِيق إليه المتخلِفون عن الخدمة الإلزامية وعن الالتحاق بدعوة الاحتياط، وفيه يعمل الضباط السوريون تحت إشراف الضباط الروس.
أما فيما يخص ما يُسمى «جيش سهيل الحسن»؛ فقد جرت تحولات كبيرة فى طبيعة تعاطى هذا «الجيش» مع الأحداث وقياداته، كما أن ثمة تحولات بنيوية تهم الروس فى صفوف القادة الميدانيين لهذا التشكيل العسكرى.

• معارك أساسية بقيادة روسية كاملة

بدأ التدخل الروسى فى إدارة معارك النظام بإرسال خبراء صواريخ ومضادات دبابات وخبراء استطلاع، مرافقين لقوات النظام والقوات الإيرانية. ومع معركة تدمر الثانية فى 4 مارس 2017 تسلم الروس قيادة العمليات العسكرية، حيث وُضِع ضباط جيش النظام والضباط الإيرانيون تحت إمرة الضباط الروس، الذين تواجدوا فى معظم الجبهات مع جنودهم وبعض آلياتهم. ولم يُسجل حتى الآن دخول قوات برية مُدرعة أو دبابات روسية فى المعارك، إنما لوحِظ تواجد عناصر روسية فى الخطوط الخلفية ومراكز القيادة.
أما أهم المعارك التى صاغها الروس فهى: معركة حلب، والمعارك الأخيرة مع داعش فى البادية السورية، وتحرير دير الزور والرقة، ومعارك دمشق الأخيرة، حيث تولى الضباط الروس التخطيط والهجوم وعقد الهُدَن والتسويات، فضبطوا تحركات جيش النظام والميليشيات الإيرانية بدقة، وحدوا بشكل كبير من الفوضى التى كانت تنشأ بين الحين والآخر على الجبهات.
يقول ملازم فى جيش النظام، يخدم فى معسكر اللواء 550 فى تدمر: «اتخذ الروس مبنى قياديا فى اللواء مقرا لهم، وضِعَت عليه حراسة روسية كجزء مستقل كليا عن اللواء. إلا أنهم كانوا متحكمين بكل شىء، حيث يُشرِف ضباطهم على عمل اللواء، ويتفقدون كل شىء، ويتدخلون فى التفاصيل، كمهاجع العناصر، ومخازن الذخيرة، ومكاتب الضباط السوريين، والعقوبات، والإجازات، وإجازات الضباط، وطريقة تعاطى الضباط مع الجنود السوريين. كل شىء.
أذكر مرة أن ضابطا روسيا كان يتفقد المهاجع، فوجد بابا مُقفلا وسأل اللواء عن سبب إقفال هذا الباب، فقال له اللواء السورى: هكذا ارتأيت كى لا يسرق أحد الذخيرة. عندها قام الضابط الروسى بجر اللواء من رتبه نحو الباب، وانهال عليه بالشتائم، وبرطم ببضع كلمات عربية تعنى: لست أنت القانون، ثم أسرع اللواء بإحضار المفاتيح وفتح الباب.
كما أكد الملازم أن الضباط الروس غالبا ما يتدخلون لصالح الجندى السورى، لتمييز حقوقه وواجباته، ومنع الضباط السوريين من التنمُر عليه، الأمر الذى كان فى صلب العرف الخاص بجيش النظام.
ثمة شهادة أخرى من معارك الغوطة الشرقية الأخيرة لمقاتل فى صفوف جيش سهيل الحسن يقول فيها: «أعطانى العقيد قائد المحور المهاجم أمرا بإطلاق قذيفة دبابة على هدف داخل الأحياء السكنية، بعد الاشتباه بوجود تجمع للمسلحين هناك، فنفذت، وبعد أن أطلقت النار للمرة الأولى، اندفع الضابط كثيرا وأمرنى بإطلاق المزيد من القذائف على المنطقة نفسها، فنفذت الأوامر، وما هى إلا دقائق قليلة حتى حضر ضابط روسى، وأنب العقيد الذى كان يرتجف، وقال له: طلقة واحدة يعنى طلقة واحدة، نحن لا نلعب كرة القدم هنا. ثم سحب رتبه وأشار له بالتوجه إلى السجن، ونظر إلينا وقال مُنبها: طلقة واحدة يعنى طلقة واحدة.
شهادات عديدة أكدت السيطرة الكاملة للروس على إدارة العمليات العسكرية على الأرض السورية، والتحكم المطلق للعسكريين الروس فى مجمل الحياة العسكرية العامة.
وختاما تضيف الورقة أن الروس يُدركون تماما أن ثمة استحقاقا تاريخيا فى سوريا لا بد منه، ويعلمون جيدا أنه من غير الممكن إعادة تأهيل نظام الأسد وفْق بنيته السابقة. ولذلك يعملون على تشكيل نظام جديد، قد يحمل فى أطواره الأولى شكل النظام السابق، ويضمن لهم انتقالا سلسا لشكل الدولة التى تضمن مصالحهم لعقود قادمة من الزمن.

النص الأصلى: 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved